العراق : عن الموازنة العامة في نظام زبائني

مشاهدات


 

د . يحيى الكبيسي 


في كل مرة يثبت الفاعلون السياسيون الأقوى في العراق أن الدولة بالنسبة لهم هي مجرد مورد للاستثمارات المالية الشخصية وما يلحقها من استثمارات مالية لتابعيهم وتابعي تابعيهم بتطبيل ولا  أحد يعرف بطبيعة الحال أين تنتهي سلسلة التابعين هذه .


ومع كل قانون أو فعل سياسي مفترض تتأكد هذه الحقيقة بصورة مفضوحة وآخر صفقات هذا الاستثمار قانون الموازنة العامة الاتحادية الذي تم التصويت عليها يوم أمس ! سيكون من العبث التذكير بما نص عليه قانون الإدارة المالية الاتحادية رقم 6 لعام 2019 الذي شرعته الدورة الحالية لمجلس النواب نفسه ! تحديدا فيما يتعلق بألا  يزيد العجز في الموازنة التخطيطية على 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي المادة 6/ رابعا ولكن مراجعة العجز في الموازنة الجديدة يشكل أضعاف هذه النسبة وفقا للأرقام الرسمية بلغ الناتج المحلي الإجمالي للعراق 234.09 مليار دولار في العام 2019 وقد انخفض هذا الرقم بشكل حاد عام 2020  و2021 بسبب انخفاض أسعار النفط، والتزامات العراق بخفض الإنتاج بعد اتفاق (أوبك +) وبسبب الركود الاقتصادي الناتج عن أزمة كوفيد ـ 19 إلى ما يصل 30٪ وفقا لوزارة التخطيط العراقية وهذا يعني ان الناتج المحلي الإجمالي سيبقى في حدود 160 إلى 170 مليار دولار في أحسن الأحوال وهو ما يعني أن نسبة العجز الفعلي تبلغ أضعاف ما ورد في القانون !


وقد انتهك القانون الذي تم التصويت عليه احكاما صريحة تتعلق بصلاحية مجلس النواب فيما يتعلق بالموازنة فقد نصت المادة 12 من القانون على أن لمجلس النواب إجراء المناقلات بين أبواب وفصول الموازنة المرسل من مجلس الوزراء فضلا على تخفيض سقف الموازنة حصرا كما ان له أن يقترح على مجلس الوزراء زيادة إجمالي نفقات الموازنة لا غير ! لكن مجلس النواب لعب بالموازنة المرسلة من مجلس الوزراء كما يحلو له وقد وصل الأمر إلى التصويت على فقرة لا علاقة لها بالموازنة العامة كما عرّفها القانون نفسه بوصفها خطة مالية تعبر عما تعتزم الدولة القيام به من برامج ومشروعات تتضمن جداول تخطيطية لتخمين الإيرادات وتقدير النفقات بشقيها الجارية والاستثمارية لسنة مالية واحدة ! فمن أجل الدعاية الانتخابية المبكرة تم اقتراح مادة تتحدث عن توفير أراض لكل فئات المجتمع تم تمريرها بسرعة البرق حتى من دون حساب عدد المصوتين !


فقد عمد مجلس النواب إلى تغيير سعر برميل النفط من 42 دولارا إلى 45 دولارا وبالتالي تغيير الإيرادات المتوقعة في الموازنة من 93.1 ترليون دينار إلى 101.3 ترليون دينار كما عمد شكليا إلى خفض سقف الموازنة من 164.2 ترليون دينار عراقي إلى 129.9 ترليون دينار عراقي وذلك من خلال اللعب بالأرقام ! فقد عمد مجلس النواب إلى تخفيض قيمة أقساط الدّين الخارجي والمحلي من 14.7 ترليون دينار إلى 9.036 ترليون دينار من دون ان نعرف على أي أساس تم هذا التخفيض أولا ومن خلال استبعاد كافة المتأخرات والمديونية والقروض الأجنبية والمحلية التي ستمول المشاريع الاستثمارية والبالغة 23.2 ترليون دينار ! ولو أضفنا هذين الرقمين ومجموعهما 28.86 ترليون دينار إلى النفقات لوصلنا إلى رقم 158.76 ترليون دينار عراقي وليس 129.9 ترليون دينار كما تقول الأرقام المضللة ! وهذا يعني أن قيمة العجز الفعلي في الموازنة التي تم تمريرها يزيد عن 57.46 ترليون دينار وليس 28.67 تريلون دينار كما تقول الأرقام المضللة نفسها !


إن هذه الأرقام لا تكشف فقط عن عدم احترام مجلس النواب لصلاحياته الدستورية والقانونية  بل تكشف أيضا عن تضليل متعمد مارسه الفاعلون السياسيون الذين دبجوا هذه الموازنة وأجزم ان الغالبية العظمى من أعضاء مجلس النواب لم ينتبهوا لهذا التضليل !  لن نستطيع تحليل الموازنة ككل في هذا المقال لكن مراجعة بعض فقراتها تكشف عن عدم التزام سلطات الدولة مثلا بما جاء في قانون الموازنة الاتحادية لعام 2019 لم يتم تشريع قانون للموازنة في العام 2020 !  فقد نصت المادة 11/ أولا من هذا القانون على أن تلتزم الوزارات الاتحادية والجهات غير المرتبطة بوزارة بجدول عدد القوى العاملة الوارد في القانون كما نصت المادة 14/ ثالثا على إيقاف التعيينات في الرئاسات الثلاثة مع جواز النقل والتنسيب بما لا يزيد عن 15 موظفا لكل منها . ولكن مراجعة أرقام القوى العاملة تكشف عن زيادة في عدد العاملين فيها بما يخالف ما جاء في القانون فقد زاد عدد موظفي مجلس النواب من 2178 إلى 2223 موظفا بزيادة 45 موظفا ! كما زاد عدد موظفي مجلس القضاء الأعلى من 12124 إلى 12458 موظفا أي بزيادة بلغت 334 موظفا !


منذ البداية كان واضحا أن الصراخ عالي الصوت حول العودة إلى سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار إلى ما كان عليه قبل قرار البنك المركزي العراقي بتخفيضه من 1.182 إلى 1.450 دينار مقابل الدولار لم يكن سوى قنبرة دخان للتغطية على المصالح المالية والسياسية التي يراد تضمينها في الموازنة وواضح أن هذه القنبرة قد نجحت في مهمتها وتحولت الموازنة بصيغتها الأخيرة إلى مورد للاستثمار المالي للفاعلين السياسيين وقد كانت مضاعفة المبلغ المخصص لإعادة الإعمار والتنمية من 2 إلى 4 ترليونات دينار عراقي أحد أبرز ملامح هذا الاستثمار مع غياب مجالس المحافظات التي تراقب المحافظين ومع تحييد دور مجلس الوزراء في المصادقة على هذه المشاريع فقد نص مشروع  قانون الموازنة على فقرة اشترطت عدم إدراج أي مشروع استثماري ضمن الموازنة الاستثمارية وبرنامج تنمية الأقاليم إلا بعد موافقة وزارة التخطيط ومصادقة مجلس الوزراء المادة 6/أ ولكن النص الأخير الذي تم التصويت عليه حرص على حذف عبارة ومصادقة مجلس الوزراء كما تم تحييد دور الأمانة العامة لمجلس الوزراء في موضوع بناء الـ 1000 مدرسة بتخصيصات وصلت إلى 199 مليون دولار ومنحها لوزارة التربية حصرا لبناء تلك المدارس رغم سجل هذه الوزارة السيئ في هذا المجال ! ولا يمكن فهم هذه التعديلات إلا في سياق الاستثمار المالي الشخصي للطبقة السياسية فقد بات معروفا اليوم أن الوزارات في العراق هي اليوم إقطاعيات للفاعلين السياسيين الأقوياء وهم المسؤولون عن ترشيح وزرائها وهم من يديرونها فعليا لاستثمارها لمصلحتهم، وهكذا فقرات ما كان يمكن لها أن تمر لولا حصول الآخرين أيضا على حصتهم من الاستثمار في مواضع أخرى من الموازنة في سياق تخادم زبائني متواطأٌ عليه جماعيا !


تعليقات

أحدث أقدم