ملالي إيران يغازلون فرنسا وأوروبا.. ويصفون محادثاتهم مع السعودية بالبناءة

مشاهدات




د. سامي خاطر

أكاديمي وأستاذ جامعي



الحراك الإقليمي الدولي من طهران للخروج من عنق الزجاجة.. ما بين الغزل الأوروبي والتحوّل السعودي

أطلقت طهران في الأشهر الأخيرة إشارات واضحة نحو إعادة تموضعٍ دبلوماسيٍّ متدرّج.. فمن جهة بادرت إلى محاولات تدفّق نحو أوروبا الغربية وعلى رأسها فرنسا عبر تلميحاتٍ ومواقفٍ تُظهِر استعداداً للتعاون المشروط، وفي الوقت نفسه تصف محادثاتها مع السعودية بأنها بناءة.. ومن جهةٍ أخرى تحاول بكثيرٍ من الحنكة إشراك الرياض في أطر حوارٍ جديدة ريثما تتراجع عزلة جمهورية الملالي تدريجياً في محيطٍ إقليميٍ ساخن. ولعلّ كلمتي غزل وبناءة تعبّران عن تصوّر طهران لنفسها كبادئة للاحتواء الدبلوماسي.. تغازل أوروبا بأن تُفتح لها الأبواب، وتُعلن عن محادثاتها مع السعودية بأنها ناضجة وتنبئ بفصلٍ جديد، وهذا يشير إلى أنّ إيران تحاول الخروج من عنق الزجاجة الذي فرضته العقوبات والعزلة، لكنّ الأهمّ هنا هو: ما مدى صدقية هذا الغزل وإلى أي حدٍّ تستجيب له أوروبا، وبأي سياق يُجري الحوار مع السعودية ؟

أولاً: مؤشرات تقارب طهران مع الرياض
من الواضح أن هناك دفعةً جديدة في العلاقة بين إيران والسعودية.. ففي لغةٍ رسمية أكّدت إيران استعدادها لتوسيع علاقاتها مع المملكة في كافة المجالات، وبنبرةٍ تحمل ما يشبه الغزل البناء بمعنى: نحن مستعدّون.. فهل أنتم؟ ولا يُخفى أنّ وصول وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان إلى طهران وتسليمه رسالة من الملك سلمان إلى الولي الفقيه يشكّل علامةً سياسية مهمة؛ علاوة على ذلك تصف إيران المباحثات مع الجانب السعودي بأنها مفاوضات اقتصادية بنّاءة، وأوضح وزير اقتصاد إيران أن نظيره السعودي وافق على كافة المقترحات الخمسة التي قدّمتها طهران، ويرى الجانب الإيراني في هذا الاتفاق خطوة مهمة واصفًا إياها بأنها خارطة طريق لتعاون اقتصادي متنامٍ بين البلدين، وبذلك تبدأ مسيرةً جديدة في العلاقات السعودية-الإيرانية، ولا يقتصر الأمر على مجرد إعلان كبير بل يمتد أيضًا إلى حوارات متعددة التوجّهات: سياسيّ، أمنيّ، اقتصاديّ.. وهنا تحاول طهران أن تقول للعالم: انظروا نحن نتحوّل.. بينما المملكة وإن كان بحذر تُراهن على هذه الابتسامة الإيرانية.


ثانياً: الغُزل باتجاه أوروبا؟
في المقابل تحاول طهران إعادة نسج علاقاتها مع أوروبا وعلى رأسها فرنسا عبر رسائلٍ دبلوماسية توحي بأنها مستعدّة لتخفيف التوترات.. وقد توسعت إلى قبول حوارٍ مباشر مع الدول الأوروبية الثلاث (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) بشأن برنامجها النووي.. كما أن باريس رحّبت في وقتٍ سابق بإعادة العلاقات بين السعودية وإيران مُظهِرة اهتماماً بتعزيز دورها في وساطة الشرق الأوسط. من جانبٍ تحليليٍّ يُفهَم هذا الغُزل الأوروبي بأنه محاولةٌ لإعادة التموضع في ميزان المصالح: أوروبا تحتاج إلى طهران من حيث الاستقرار في الشرق الأوسط والطاقة والممرّات، وطهران تحتاج إلى أوروبا من أجل كسر العزلة والحصول على شرعية دولية ورسائل إيجابية تُخفّف الضغوط؛ لكن هذا الغُزل السياسي لا يخلو من الحذر فالدول الأوروبية لا تزال تربط أي تحسّن بالعناوين الكبرى: البرنامج النووي.. الصواريخ الباليستية ودعم الجماعات الإقليمية وحقوق الإنسان.


ثالثاً: المحرك الاستراتيجي - لماذا الآن؟
من الجهة الداخلية، تواجه إيران ضغوطاً اقتصادية متزايدة، وعقوبات مشدّدة، وإرهاقاً من العزلة، مما يدفعها للخروج من عنق الزجاجة عبر تقاربٍ دبلوماسي محسوب. إقليمياً نجد أن السعودية تتحوّل إلى لاعبٍ يعتمد النأي بالنفس عن الصراعات ويبحث عن استقرار داخلي وتنويع اقتصادي ضمن رؤية 2030، وهذا يفتح باباً أمام إيران لتقول: نحن جيران ويمكننا التعاون.. أما دولية فإن الصراع مع إسرائيل ومسار الملف النووي وبروز الأوروبيين في مبادرات الوساطة كلها عوامل تدفع طهران إلى المرونة.. فـ الغزل تجاه أوروبا والحوار البنّاء مع السعودية ليسا مجرد عباراتٍ مجاملة بل تكتيك دبلوماسي في لعبةٍ أكبر، وأما زارة الخارجية الإيرانية من جانبها أكدت أنها ستستمر في المطالبة بتنفيذ مطالبها الواضحة من الأوروبيين، معتبرةً أنهم ليسوا في موقع المطالبة بعد إخلالهم بالتزاماتهم تجاه إيران.


رابعاً: مؤشرات التوتر والقيود - لماذا لا يُعتبر هذا الحراك تقدّمًا كاملاً؟
رغم النغمة الإيجابية هناك حدودٌ واضحة.. فعلى صعيد أوروبا تبدو باريس ولندن وبرلين أكثر تشدّدًا في ملفات العقوبات والصواريخ الإيرانية، وهناك حديث متزايد عن تفعيل آلية التصعيد (Snap-back) إذا لم يحدث تقدّم في الملف النووي.. كما أن فرنسا تشدّد على أن أي مقايضة مع طهران يجب أن تراعي أمن أوروبا أولاً، وألا تمنح النظام الإيراني حريةً تُهدّد التوازن الإقليمي.. أما بالنسبة للعلاقة مع السعودية فإن النهج البنّاء لإيران لا يضمن قبول السعودية لهذه الخطوات دون تحفظات.. فالرؤية السعودية تقوم على تحالفاتٍ مشروطة لا تسمح بهيمنةٍ إيرانية جديدة، وهنا تكمن دقّة الموقف في أن لا تفقد طهران موقعها كمبادر وألا يُعاد إنتاج العزلة تحت عنوانٍ جديد.

خامساً: السيناريوهات المحتملة ومخاطر المسار هناك ثلاث فرضيات رئيسية لهذا الحراك الإيراني:


1. سيناريو الالتفاف التدريجي: تواصل إيران جذب أوروبا وحوار السعودية، ومع الوقت تنال تخفيفاً للعقوبات وتتحوّل إلى شريكٍ مقبول في ملفاتٍ محددة.

2. سيناريو التجميل المؤقت: تُستخدم لغة الانفتاح لتخفيف الضغوط، دون تغييراتٍ جوهرية في سلوك طهران مما يؤدي إلى خيبة أمل أوروبية- سعودية لاحقاً.

3. سيناريو التصعيد المضاد: في حال تشددت أوروبا أو السعودية قد تعود إيران إلى سياسة الصلابة الثورية وتستعيد خطاب المواجهة التقليدي مع الغرب. الخطر الأكبر يكمن في انكشاف الاستراتيجية الإيرانية أمام الشركاء أو فشل نظام الملالي في تحويل الانفتاح الخارجي إلى مكاسبٍ داخلية ملموسة مما قد يعزز نفوذ التيار المتشدّد في طهران ويدفع نحو عودة سياسة العزلة.

مفاتيح النجاح والانتظار الحذر
خلاصة القول.. إن إعلان إيران أن محادثاتها مع السعودية بناءة، وأنها منفتحة على الغرب، ليس مجرد بروباغندا دبلوماسية، بل محاولة للخروج من مأزقٍ مركّب بين الداخل المضطرب والعالم المتحفّظ. اليوم، تقف أوروبا أمام سؤالٍ مفتوح: هل تستجيب لـ غزل إيران وتحوله إلى حوارٍ جاد، أم تردّ بحزمٍ يُعيد طهران إلى موقعها الدفاعي؟ أما السعودية، التي تنتهج سياسة الاتزان الإقليمي فترى في هذا المسار فرصة لإعادة صياغة الجوار بما يخدم الاستقرار، دون أن تمنح النظام الإيراني امتيازاتٍ مجانية. وفي النهاية ما نراه ليس مجرد توددٍ دبلوماسي بل حراكٌ استراتيجي متعدّد الطبقات تحاول من خلاله طهران الانتقال من موقع المُحاصر إلى موقع صانع المبادرة في مشهدٍ يعكس دهاء السياسة الإيرانية وسعيها الحثيث للخروج من عنق الزجاجة.. أليس حريا بهذا العالم أن يترجل من برج أوهامه ويكون على قدر عال من المسؤولية لينصر المستضعفين في إيران بدعمه نضال الشعب الإيراني وقواه الحرة خاصة وأن بديل هذا النظام قادر مقتدر وذي رؤية ديمقراطية توفر لإيران وشعبها وجيرانها الأمان والاستقرار.

تعليقات

أحدث أقدم