د. ضرغام الدباغ
تتطلع الدول التي تفكر بالطرق الدولية في البحار وعلى البر (سكك حديد وشاحنات) وفي الجو (النقل الجوي) ولكل من هذه مزاياها، السلبية والايجابية. لذلك فتأمين واسع وآمن في هذا المجال يحسب لكل منها مزاياه. فالشحن البحري، وهو أسهلها وأيسرها مالياً، ويتجه النقل البحري اليوم لصناعة سفن عملاقة، تسيرها قوى / طاقة بالبترول، والغاز، وحتى الطاقة النووية. وبحاويات ذات أحجام وسعة وتخصصات مختلفة، لنقل المواد الكيمياوية، أو المبردة للاغذية.ذات حمولات عالية قد تبلغ لحد 250 ألف طن، وموانئ عملاقة لأستقبال هذه السفن، بأرصفة ذات قدرات عالية الانتاجية والإنجاز، في التحميل والتفريغ، وأيدي عاملة ماهرة، ولكن في اقتصادات النقل البحري يفضل الطرق الأقصر، والطرق البحرية غالبا في مياة دولية، ولكن مع العبور في ممرات حتمية ومضائق وقنوات، كقناة السويس وبنما، والبسفور، لذلك من غير المتوقع أن تضمحل أهمية النقل البحري، ولا القنوات الاستراتيجية كقناة السويس التي تسمح بمرور أضخم السفن في العالم، وبحمولات ضخمة (بمئات الألوف من الأطنان) وبوقت يسير.
ومع ان النقل البري (شاحنات، سكك حديدية) بدوره يتقدم لجهة التسهيلات التكنولوجية في مجال الشاحنات وعربات النقل في طرق السكك الحديدية، والسرعات، إلا أننا نرجح أن النقل البري سيبقى في الدرجة الثانية من الاهمية بعد النقل البحري, وسيختص بنقل سلع وبضائع غير تلك التي يمكن نقلها بحراً. لذلك فالحديث عن تلاشي أهمية قناة السويس مثلاً يفتقر للموضوعية والحسابات العلمية. النقل الجوي، يتضاعف حجمه واهمية، ولكنه مكلف اقتصادياً، ومع ان حجم الطائرات وحمولتها تزداد، إلا أن كلفة النقل قياسا للنقل البحري ترجح النقل البحري والبري، إلى أمد غير منظور. والنقل البحري/ البري، الي يخطط له ، برسو السفن في ميناء الفاو الكبير (تحت الانشاء) هو في التطلع الصيني لتوفير طرق تجارة دولية تلبية لتنامي صادراتها، والاهمية الحاسمة لطرق التسويق، ولكن الهند التي تتطلع إلى مكانتها في التجارة العالمية، وتنظر بعين الأهمية إلى الطريق البحري/ البري الممتد من ميناء الفاو عبر العراق إلى سوريا أو تركيا على المتوسط، صفحة من صفحات طريق الحرير والصين تنتظر الأنتهاء من تطوير ميناء "جوادر" الباكستاني المطل على بحر العرب والذي من المخطط أن يكتمل عام 2030، تضيف محطة سريعة وغير مكلفة لإيصال المنتجات الصينية إلى أوروبا.
على الجانب الآخر، يؤكد مشروع ممر الهند الشرق الأوسط أوروبا على الشراكة المزدهرة بين الهند والولايات المتحدة، وتعول الولايات المتحدة على الهند لجعلها منافساً للصين، قد يقلص من دورها العالمي، ويمثل المشروع مناورة مشتركة من قبل واشنطن ونيودلهي لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث تراهنان على أن تسريع سلاسل توريد البضائع الهندية إلى أوروبا يسهم في تقليل الاعتماد على البضائع الصينية، وبالتالي يحد من نفوذ بكين دولياً. لذلك يمثل مشروع الممر الهندي الدفاع عن نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط، حيث اكتسب منافسوها العالميون، روسيا والصين، أرضاً في السنوات الأخيرة . كما يمثل المشروع إجراءً مضاداً لتحركات روسيا والصين، فخلال سبتمبر/أيلول 2023، غادر أول قطار شحن روسيا متجهاً إلى المملكة العربية السعودية عبر إيران، كجزء من ممر النقل "الشمال/الجنوب". وتسعى الولايات المتحدة لطمأنة الشركاء التقليديين، خاصة السعودية والإمارات، والظهور باعتباره من يقدم مكاسب لحلفائه من خلال تمكينهم من الاستفادة من النمو الاقتصادي الهندي.
تنامي دور الصين في التجارة العالمية
رغم كل هذه المشاريع الأمريكية / الهندية،، تظل "مبادرة الحزام والطريق" ومشروعات البنية التحتية العالمية للصين تواصل التطور، وتخدم طرق التوريد الكبيرة الخاصة بالصين، ومع أن الطريق البري (طريق الحرير) قطع أشواطا بعيدة، إلا انها تهتم أيضاً بالطرق البحرية لتجارتها الدولية المتنامية، كما لم يحد على الأرجح من تنامي العلاقات الاقتصادية والتجارية بين دول المنطقة والصين التي تعد الشريك التجاري الأكبر للدول العربية بإجمالي 430 مليار دولار، بما في ذلك السعودية والإمارات، كما أن وزير الاستثمار السعودي، خالد الفالح، أعلن في يونيو/حزيران الماضي أن بلاده تتجه لتدشين ما وصفه بـ"خط حرير للتنمية مع الصين".
الدور الحالي والمستقبلي لقناة السويس
يمر عبر قناة السويس 10% من إجمالي التجارة العالمية وحوالي 7% من حركة النفط. وحققت القناة في السنة المالية الماضية إيرادات لمصر تبلغ 9.4 مليار دولار، وهي تمثل إنعاشاً حقيقياً للاقتصاد المصري الذي يواجه أزمة. وعلى الرغم من مشروعات النقل المتعددة، فإن قناة السويس ستظل ضرورية لعبور الحاويات العملاقة وناقلات النفط والغاز، والتي تمثل فئة رئيسية بين الناقلات العابرة من مجرى القناة. ومن المرجح أن قناة السويس ستظل لأمد غير منظور، لها ميزة جيوسياسية لا يمكن التقليل منها، خاصة أن بعض هذه المشروعات، مثل طريق التنمية وممر الهند أوروبا، مازالت مجرد خطط طموحة على الورق قد يطول أمد تنفيذها أو حتى تتعثر، في ظل الاجواء السياسية لمنطقة الشرق الأوسط . ومما يزيد خسائر مصر الجيوسياسية والاقتصادية أيضاً في المدى الطويل ، وبدء تشغيل ممر العبور الشمال الجنوب، المصمم لنقل البضائع لمسافة حوالي 7200 كيلومتر من موسكو، عبر إيران إلى مومباي، والذي يختصر مدة النقل من روسيا إلى الهند إلى نحو 10 أيام، من 30 إلى 45 يوماً عبر قناة السويس فقد تحرك قطار شحن يضم نحو 36 حاوية من روسيا إلى إيران في طريقه إلى السعودية، وشق طريقه إلى ميناء بندر عباس في مضيق هرمز، حيث يتم شحن الحمولة على متن سفينة وجهتها جدة، بدلاً من الطريق البحري الطويل المار عبر قناة السويس. وتشير التقديرات إلى أن مسارات ممر العبور الشمالي الجنوبي عموماً أرخص بنسبة 30% وأقصر بنسبة 40% من المسار التقليدي عبر قناة السويس. ولكن تأثيره سوف لن يكون بدرجة مهددة.
وماذا عن حسابات الأطراف الإقليمية؟
يمثل مشروع ممر الهند / أوروبا خطوة إضافية ضمن خطوات دمج إسرائيل استراتيجياً في هيكل الشرق الأوسط الاقتصادي والتجاري والأمني، من خلال مجموعة متنوعة من الاتفاقيات والهياكل الثنائية ومتعددة الأطراف مع دول المنطقة التي تقدم نمطاً غير مسبوق في علاقات إسرائيل بدول المنطقة العربية. ولا شك أن توقيت الإعلان عن المشروع يخدم جهود الإدارة الأمريكية التي تسارع خطواتها من أجل التوصل لصفقة تطبيع كبرى بين السعودية وإسرائيل. يخدم مشروع ممر الهند أوروبا إصرار ولي العهد السعودي على انتزاع الزعامة الإقليمية، وقد ظهر هذا في تصدره الإعلان عن مذكرة التفاهم كممثل عن دول الشرق الأوسط، للتأكيد على موقع السعودية كمحور للمشروع، رغم أن فكرته لم تخرج من الرياض . ويخدم الممر سياسة تنويع الاقتصاد التي تنتهجها المملكة العربية السعودية في خططها الاقتصادية / السياسية، وسياسة تنويع بدائل علاقاتها الدولية والاحتفاظ بعلاقات مع الغرب وروسيا والصين في الوقت نفسه، وهو ما يعزز من احتمالات ومكانة السعودية بين المستثمرين في المشاربع الصينية / الروسية. في الوقت نفسه، يعزز "ممر الهند/ الشرق الأوسط/ أوروبا" التموضع الاستراتيجي الذي تسعى دولة الإمارات العربية لتحقيقه من خلال دمج مصالحها التجارية والاقتصادية مع مصالح قوى متعددة إقليمياً ودولياً، باعتبار أن ذلك يعزز بالضرورة أمن الدولة إزاء التهديدات الخارجية. ومن خلال كونها نقطة اتصال بحري رئيسية في مشروع الممر الهندي / الامريكي، فضلاً عن كونها صاحبة المبادرة مع الهند، تسعى أبوظبي لتأكيد أهمية دورها في طرق التجارة الجديدة الآخذة في التشكل، خاصة في ظل التنافس الاقتصادي المتزايد بين أبوظبي والرياض على ريادة الأعمال إقليمياً. وفي الوقت نفسه، ستحرص الإمارات على الاستثمار في "طريق التنمية" كي لا تخسر الوجود الاستراتيجي في مسارات المشاريع الصينية.
لم يكن من المفاجئ أن تنظر تركيا لمشروع "ممر الهند أوروبا" كفرصة يجب ألا تتجاوزها، مع سعي أنقرة للتأكيد أن موقعها هو الخط الأكثر ملاءمة لحركة نقل الطاقة ومرور البضائع من الشرق إلى الغرب، سواء ضمن المشروع الصيني، مبادرة الحزام والطريق ، أم من خلال مشروع "طريق التنمية"، الأمريكي / الهندي الذي كثفت الترويج على أهميته، بالإضافة لخطط تشغيل ممر زنغزور الذي يربط تركيا برياً مع آسيا الوسطى والصين، ويسهل نقل المزيد من البضائع والأفراد بين الصين وآسيا الوسطى وأوروبا عبر الأراضي الأذرية، فيما يعرف بـ"طريق بكين / لندن". لذلك، ستعمل تركيا على الانضمام لمشروع الممر الهندي كنقطة اتصال بحري إضافية، ومنطقة عبور بري للبضائع الهندية إلى شرق وجنوب أوروبا. أي إن أنقرة ستحرص-كما السعودية والإمارات- على الوجود على كامل خريطة طرق النقل الجديدة، دون الاكتفاء بالرهان على مسار واحد. وكل بلدان الشرق الاوسط ستسعى جاهدة للأنضمام لأي من المشروعين، والاسباب جلية وتتمثل في المكاسب الاقتصادية وتعزيز أوضاعها السياسية. أما العراق، فيسعى عبر مشروعي ميناء الفاو الكبير وطريق التنمية (القناة الجافة) إلى تعزيز مكانته الجيوسياسية على خريطة التجارة والنقل العالمية، بحيث يصبح مركزاً حيوياً للنقل بين آسيا وأوروبا. بالإضافة إلى استعادة جزء كبير من ثقل بغداد الإقليمي، وتعزيز الروابط العراقية العربية، الأمر الذي سيزيد من قدرة بغداد على مواجهة الضغوط الإيرانية الحريصة على إبقاء العراق ضمن مجال النفوذ الإيراني. لكن في المقابل؛ تتخوف طهران من أن طريق التنمية سيربط الخليج مباشرة بتركيا متجاوزاً خط النقل الإيراني الذي يربط بين آسيا وتركيا، خاصة مع جهود الغرب لعزل إيران دولياً. كما أن المشروع سيكون له دور مؤثر في تقليل النفوذ الإيراني في العراق. بالإضافة لذلك؛ فإن الممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا يمثل طريقاً بديلاً لممر "الشمال الجنوب" المار عبر إيران وروسيا، وهو ما يعني أن المشاريع الهندية إلى أوروبا سوف لن تمر عبر إيران كما كان مخططاً، بما يمثل خسارة اقتصادية وجيوسياسية لطهران.


إرسال تعليق