زيارة غير متوقعة لي في السجن

مشاهدات

 


ضرغام الدباغ

زيارة السجين مسألة مؤثرة تثير انفعالات عديدة وشجون، والزائر (المواجه) يتجشم فيها عناء التنقل لمسافة طويلة للوصول إلى أبو غريب، ومن ثم سير على الأقدام مسافة أخرى لا تقل عن 3 كم، من الباب النظامي للسجن، وحتى الوصول إلى السجن السياسي (قسم الأحكام الخاصة). أضف لذلك أن الزائر يتأثر برؤية من يزور، إذ يشاهده في ملابس غير تلك التي كان عليها بأناقة وانتظام، والسجين بدوره يشاهد بوضوح الألم والأسى في أعين من جاء لموجهته، ويحاول أن يسري عنه بكلمات أو ابداء العطف . فالمواجهة هي مفرحة ومحزنة في آن واحد ـ ولا سيما لضعاف القلوب ..!

هي مسألة مؤلمة ولكنها بالمقابل تعني شيئاً لطيفا، أن يزورك صديق، أو شخص يتقبل العناء والإرهاق النفسي الذي تمثله القضبان، والأقفاص، والحراس، وإجراءات الدخول للسجن والخروج . فبالتأكيد لا تمثل رؤية السجن وهو يعتصر البشر أمراً يبعث على السرور .. وقد زارني الكثير جداً من أصدقائي للسجن، وبعضهم أراد المجيئ، ولكني رجوتهم أن لا يقدموا سبباً للسلطات بإيذائهم، أو محاسبتهم .. لأنهم موظفين أو ضباط كبار .. أو شخصيات معروفة، وقد حوسب بالفعل إثنان من أصدقائي بسبب قيامهم بزيارتي في السجن.

ذات أمسية .. ربما بعد السابعة أو الثامنة مساء، نودي علي إلى باب القسم (الردهة). واستدعاء كهذا ليس سبباً ممتعاً، وعلى كل حال أخبرني الحارس، أني مطلوب للإدارة. وعندما خرجت معه، دخلت غرفة ضابط الخفر، وإذ بشخص يرتدي الثياب المدنية جالساً عنده، نهض لملاقاتي وتحيتي .. وكانت المفاجأة بالنسبة لي كبيرة عندما قدم نفسه بأنه فلان . أبن طاهر يحي . والمفاجأة كانت تامة لأنني لم أكن أعرف هذا السيد الذي يبدو أنه وافر الاحترام، ولا أي من أنجال الفريق طاهر يحي . وجلست، فأخبرني أنه يقيم في دولة الإمارات، وهو في زيارة قصيرة لبغداد، وقرر أن يزورني فهو قد سمع بأسمي، وأراد أن يتعرف على شخصي . وتصادف أن يكون ضابط الخفر في السجن صديق شخصي له.

أن يزورني نجل الفريق طاهر يحي، لا أنكر أنها أفرحتني كثيراً، فأنا كنت للأسف في الستينات، ممن تأثروا بالشائعات والدعايات المسيئة للفريق طاهر يحي، رئيس الوزراء، ولكن قيض لي ذات يوم أن أشاهد بنفسي طاهر يحي بسنه وصحته، يركب باص المصلحة صيفاً وهو متعب، فوالله خجلت من نفسي ومن أحكامنا العشوائية .. وأردت أن أهرع إليه وأساعده، كأني بذلك أريد أن أتراجع عن خطأ التقيمات، ثم أن صديقاً لي كان ممن يزورون الرئيس جمال عبد الناصر، أخبرني أن عبد الناصر كان يحترم طاهر يحي كثيراً ويميزه على سائر السياسيين العراقيين . ثم أن صديقاً لي هو أخي ورفيقي عبد الله غركان الحصونة، كان موقوفاً مع طاهر يحي، ويتحدث لي أخي عبد الله عن صفات ومزايا طاهر يحي الكثير، ورفيق آخر تصادف وجوده في معتقل الفضيلية مع الفريق طاهر يحي، وينقل عنه انطباعات رائعة وكبيرة، وأنه حينما سمع بوفاة جمال عبد الناصر، أقام له الفاتحة في السجن ...ما هذه النماذج الأسطورية من الرجال الأفذاذ .

عانقني نجل طاهر يحي (لست متأكداً اليوم أي من أبناؤه زهير أو غسان) وكأنه يعرفني من مدة طويلة، ولكنها بالطبع تعبير عن التضامن والمحبة . وأنا تتناهبني شتى المشاعر، ما هذه الدنيا . إنها أصغر بكثير مما نتصور، والحياة قصيرة .. قصيرة جداً أقصر مما نعتقد ونظن . الكل سيمضي . ولن تبقى إلا الذكرى الحسنة، هذا إذا كان الشخص له سيرة حسنة .. أما إذا كان شخصا سيئاً فلا يحاول أحداً أن يأتي على ذكره ويتجاهله حتى من يعرفه .
الحمد لله على هذا الحال وعلى كل حال .

تعليقات

أحدث أقدم