بين الصبر والذل خيط رفيع يُرى بالعقل لا بالعين

مشاهدات

نزار السامرائي
 
 
تحت لافتة الصبر الاستراتيجي، التي رفعتها الزعامة شبه الدينية الإيرانية في زمن القلق من توسع ردة الفعل الإسرائيلية ، والتي تميزت بعد 7 أكتوبر بالعنف والرغبة بتوظيف كل ما لديها من قوة تدميرية ، وكان ذلك هو صورة مبكرة لما حصل في غزة فيما بعد، لفت نظر المراقبين أن إيران تبرأت منذ اليوم الأول من أي دور لها في عملية طوفان الأقصى، وكذلك أعلنت قيادة حماس المقيمة في قطر، وحذا حذوهما حزب إيران اللبناني، وتبخرت في لحظة واحدة شعارات وحدة الساحات التي غطت حقبة زمنية طويلة ، وكأنها المفتاح السحري لأي نصر على إسرائيل بل وازالتها من الخارطة ، وساد بدلا عنها شعار إسناد غزة والحرص على عدم توسيع الصراع ، فأصبح ذلك بمثابة لازمة موسيقية لدى أكثر الجهات متاجرة بالقضية الفلسطينية ورفعاً للصوت بتبني خيار الممانعة والمقاومة ، ويبدو أن تبني بعض الشخصيات القيادية في حماس للخطاب الإيراني بأولوية الأمن القومي الإيراني مهما كان الثمن ، بمعنى آخر حتى لو أدى إلى فناء غزة وإعادة القضية الفلسطينية إلى المربع الأول ، قد عكس سلوكا منحرفا لدى بعض أوساط المنظمات الفلسطينية ، بحيث باتت لا تخفي ارتباطا معيبا بالمشروع الإيراني من دون أن تراعي مشاعر ملايين العراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين الذين كانوا أكثر صدقا في تبنيهم للقضية الفلسطينية واحتضانهم لمئات الآلاف من الفلسطينيين ، إيمانا بوحدة النضال العربي ضد الأخطار الخارجية ، فدفعوا ثمنا باهظا لإيمانهم الحقيقي بالقضية الفلسطينية ، ولما خرج العراق من معادلة الأمن القومي العربي، تغيرت صورة المواجهة الإقليمية، فتصدوا للخطر الجديد دفاعا عن كرامة أقطارهم وسيادتها، بوجه احتلال لا يختلف عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بل يتفوق عليه في مخاطرة بأكثر من صفحة، لم تعد خافية على أحد. 
 
ولكن هل سأل أحد القياديين في حماس أو غيرها، كم من الفلسطينيين استوعبت إيران في أراضيها وتحملت نفقات تعليمهم وما يحصلون عليه من خدمات صحية وغيرها من تكاليف الحياة . فهل اكتفت حماس بارتفاع  بعض الأصوات في أوساط الرأي العام الدولي، بدعم الحق الفلسطيني في إقامة الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967، مع ما في هذا الحل من تراجع لحماس عن كل شعاراتها السابقة بتحرير الأرض من النهر إلى البحر، فما الذي تغيّر حتى تبنت حماس الموقف الجديد هذا؟ وما المكاسب التي حققتها في غزة ، إذا استثنينا التبدل المؤقت في اتجاهات الرأي العالم الدولي ، ألا يعتبر تدمير غزة ومقتل أكثر من ثلاثين ألف شهيد فلسطيني من غير المفقودين والشهداء الأحياء من الذين لحق بهم عوق كامل جراء الجرائم الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل على مدى أكثر من خمسة شهور من السلوك النازي الفاشي ؟ وما هو رأي الزعامة الإيرانية التي تاجرت أكثر من غيرها بالقضية الفلسطينية، وزايدت على معظم الفلسطينيين بموقفها الدعائي هذا ؟ لقد حققت إيران حضورا سياسيا واقتصاديا، وسيطرة أمنية على شرق المتوسط وصارت لها قواعد عسكرية في لبنان وسوريا والعراق، لكن هذا الحضور ليس أكثر من اتخاذ أراضي هذه الدول حزاما لحمايتها من أي تعرض عسكري أو تهديد لأمنها القومي، وكادت هذه اللعبة أن تنطلي على بعض الأوساط العربية ، لولا أنها ارتكبت حماقات أكبر من قدرتها على التستر وراء واجهات لا يربطها بها إلا الزعم بالدفاع عن قضية فلسطين وتبني شعار الممانعة والمقاومة ، فحصلت إيران على هدنة قصيرة لم تستهدف أراضيها وأن استهدفت عناصرها في سوريا ولبنان والعراق في العمليات الحربية ، فقد أقدمت إسرائيل والولايات المتحدة على مهاجمة أهداف إيرانية في العراق وسوريا ولبنان، بعد أن رأت أن إيران وظفت قواعد الاشتباك بما يخدم أمنها القومي، وكانت آخر تلك العمليات تعرض القنصلية الإيرانية في ستراد المزة بدمشق، والتي اعتبرتها إيران وكل الأطراف المتحالفة معها، خرقا لقواعد الاشتباك التي ظلت محترمة من قبل الطرفين لأكثر من خمسة شهور .
 
ومع ذلك كانت المواجهات المدروسة وشبه المتفق على خطوطها العامة بين إيران وأدواتها من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، والتي لا يكاد يمر شهر أو أسبوع الا وتحصل، فتُلحق بإيران خسائر نوعية تتمثل بفقدانها لأفضل ما لديها من القادة والعناصر المدربة من الحرس الثوري، الذين أرسلت بهم ليّثبتوا النفوذ الإيراني في هذه الساحات، ولكنهم يذهبون إلى سوريا بكل ما يحملون من تأثير مفروض ووجاهة وغطرسة ورثوها من قورش، لا يستطيع أكبر الضباط في الدول التي يتواجدون فيها من مجرد ابداء الرأي أمامهم، ولكنهم يعودون إلى إيران، وسط أجواء من البكائيات، في بلد يقدس ثقافة المقابر ويعمل على نشرها حيثما حل، بمقابل غضب شعبي مكبوت من سياسة التدخل التوسعية، التي وعدت الزعامة الإيرانية شعوبها، أنها ستحقق لإيران مكانة دولية مرموقة وسيادة إقليمية مطلقة ورفاهية وبحبوحة عيش عالية المستوى . فهل يشكل خيار الصبر الاستراتيجي الذي رفعته إيران كشعار يغطي مرحلة مهمة من تاريخ الصراع في المنطقة ، خيارا مناسبا لها على المستويين الرسمي والشعبي؟ أم هو اختيار المضطر الذي انعدمت السبل أمامه وبات أمام احتمالات مواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات، فخطاب إيران لم يتبدل من حيث نبرة التهديدات عالية الوتيرة ، ولكنها بالنتيجة النهائية كانت سرعان ما تتراجع بصمت . من الناحية الرسمية يعتقد كثير من مراقبي الشأن الإيراني بأن الزعامة الإيرانية المتمثلة بالولي الفقيه، تبني كل حساباتها على فرضية أن إيران كانت قد عزمت على ألا تتكلف تومانا واحدا من كل تدخلاتها الأمنية والعسكرية في شؤون الدول الأخرى، بل تقوم باستثمار سياسي ناجح يغطي تكاليفه من موارد الدول الأخرى، وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ونقل السلطة الاقتصادية والهيمنة السياسية لإيران بموجب مخطط تخادم مشترك، يتم فيه إطلاق يد إيران في المنطقة، شريطة عدم المس بالمصالح الأمريكية الاستراتيجية، وعدم إحراج الإدارة الأمريكية أمام شعبها الذي ينظر إلى بلاده كقوة مسيطرة، بيدها كل مفاتيح الكرة الأرضية، بحيث تعطي وتمنع وقتما تشاء وحيثما تريد. 
 
بعد القصف الإسرائيلي لمبنى القنصلية الإيرانية في دمشق يوم الاثنين الأول من نيسان الجاري، والتي تم تحويلها إلى قاع صفصف بعد الن تحولت إلى مقر متقدم للحرس الثوري في عاصمة الأمويين، للتحكم بالشؤون الأمنية والسياسية في سوريا ولبنان، في مخالفة لمعاهدة فيينا بشأن تنظيم قواعد العمل الدبلوماسي، وهي العملية التي قُتل فيها سبعة جنرالات من كبار قادة فيلق "القدس" في سوريا، على نحو يؤكد أن الحرس الثوري الإيراني وكذلك جيش بشار، مخترقان على أعلى المستويات بحيث يتم استهداف ما يحصل من اجتماعات، بأعلى درجات السرية والتكتم، من حيث المكان والزمان، بعد هذه العملية، ارتفع صراخ الإيرانيين عاليا مع تهديدات لم تأت بشيء جديد مما عهدناه من النظام الإيراني، الذي استمرأ الذل الاستراتيجي حتى أصبح جزءً من التقاليد الإيرانية السائدة . اللافت للنظر أن إيران وبدلا من أن تعترف بأنها حولت مقراً دبلوماسيا، إلى ثكنة عسكرية، راحت تطالب باحترام قواعد القانون الدولي، وتناست أنها أكثر بلد في العالم خرق هذه القواعد، بصورة مباشرة أو عن طريق عملائها من المنظمات الإرهابية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، هل نسيت أنها هي التي خططت للهجوم على بنى السفارة العراقية نهاية عام 1981 ؟ وهي التي أحرقت مبنى السفارة السعودية في طهران وكذلك القنصلية السعودية في مشهد، وأن أرشيفها في هذا المجال حافل بكل ما يجب أن يلجمها عن التحدث عما يصيبها من آلام. ما قامت طائرات F35 الإسرائيلية، هو عدوان مؤكد مكتمل الأركان، ولكن ليس على الثكنة العسكرية الإيرانية، وإنما على السيادة السورية، التي نزعها نظام القتل في دمشق، وإذا أريد منا أن نعطي رأياً موضوعيا في واقعة الأول من نيسان، فإننا نقول هما عدوان على نفس الدرجة من الخطورة، وأي صدام بينهما، لا يضرنا بأي قدر من المقادير، ولكنه رسالة مفهومة بأن هذا الطراز من الطائرات بات جاهزا لتنفيذ عمليات أكبر إذا ما دعت الضرورة . وهنا لا بد أن نُسقط من حسابنا ما تدعيه إيران بأنها جاءت إلى سوريا بناء على دعوة رسمية من دولة ذات سيادة، فمثل هذه المزاعم سبق لحكومة فيتنام الجنوبية أن كان تقدمها في اتصالاتها الرسمية مع الدول الأخرى، وجميع دول العالم تعرف جيدا إن حكومة سايغون حكومة منصبة من جانب الولايات المتحدة ولولا دعمها لها ما استمرت بالحكم يوما واحدا، وهذا ما تأكد بعد الانسحاب الأمريكي المذل من فيتنام في نيسان 1975، كان ذلك إيذانا بنهاية حرب طويلة خاضتها الولايات المتحدة في شرقي آسيا بعد الحرب العالمية الثانية. وأخيرا لنسال هل هناك وقاحة أكبر من وقاحة الذين تنكروا للنضال الفلسطيني الطويل، وينسبون بقاء فلسطين في الضمير العربي، إلى يومِ قدسِ خميني، لمجرد أنه دعا إلى جعل الجمعة الاخيرة من رمضان يوما للتذكير بالقدس، في لعبة خبيثة من تاريخه المليء بالكراهية والحقد على كل ما هو عربي. القدس ليست يوما عابرا في حياتنا، بل هي كل الايام والاسابيع والاشهر والسنين.

 

تعليقات

أحدث أقدم