مقامة لهم أذكر

مشاهدات



صباح الزهيري


الوفاء سمة من يذكر , فهو عملة نادرة والقلوب هي المصارف, وقليلة هي المصارف التي تتعامل بهذا النوع من العملات, وقد سئل أحد العرب بأي شيء يعرف وفاء الرجل دون تجربة واختبار, قال : بحنينه إلى أوطانه وتلهفه على ما مضى من زمانه, إن من علامة وفاء المرء ودوام عهده حنينه إلى إخوانه, وشوقه إلى أوطانه, وبكائه على ما مضى من زمانه, وأن من علامة الرشد أن تكون النفوس إلى مولدها مشتاقة , وإلى مسقط رأسها توّاقة , وللألف والعادة  قطع الرجل نفسه لصلة وطنه . هناك أيقونة مكتوبة تقول حين تستهويني العزلة , أخلد في محراب ذكراك, أرتل ملامح وجهك, وأقرأ صفحات هواك ,  ان أول ما يلفت النظر بنص ( لهم أذكر ) الروح حين تكون مشعّة , تبعث فيك الأمل, وتضفي عليك البهجة والحبور والإشراق, وبالطبع هناك علاقة بين الشكل والمضمون , ونحن نعرف ان كل شيء ينتظر وقته, لا وردة تتفتح قبل وقتها, ولا شمس تشرق قبل وقتها فقط انتظر, عيبُ الحياة أنها تصنعُ الذكريات , وعيبُ الذكريات أنها لا تعود .

 

كتب مظفرالنواب : 

(( يا وَحشَةَ الطُّرُقاتِ .. لا خَبَرٌ يَجِيءُ مِنَ العِراقِ ولا نَدِيمٌ يُسكِرُ اللَّيلَ الطَّويلْ

مَضَتِ السُّنينُ بِدُونِ مَعنى , يا ضَياعِي ..تَعصِفً الصَّحرا وقَد ضَلَّ الدَّليلْ

لم يَبقَ لي مِن صَحبِ قافِلتي سِوى ظِلِّي و أَخشَى أَنْ يُفارِقَني و إِنْ بَقِيَ الْقَليلْ)) .

 

التذكر يرتبط دائما بالعقل, فعندما تمتلك ذاكرة جيدة يمكن أن تتذكر كل شئ سواء كنت تمر بأحداث سعيدة أم حزينة, إذ أن ذاكرتك عبارة عن مجموعة من الأحداث التي لا يمكن نسيان معظمها, فالتذكر عند الحكماء والفلاسفة ليس أمر سهل لهذه الدرجة , يذكر البوصيري في مطلع قصيدته البردة : 

((أمن تذكر جيران بذي سلم....   

مزجت جمعا جرى من مقلة بدم....

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة....

وأومض البرق في الظلماء من اضم)) , 

تكمن روعة الذكريات في تذكر أحاسيس لحظاتها . هُناك صدف مليئة , تأبى التأويل لأُحجية غير ذي حزن , تُخبئْ بين جنباتها أصداءْ لعنةُ قفار القلوب, لمن مكرت بقلوبهم الغربة كالعادة, يحلمون بالعودة لذر رماد الأماني في أعقاب مَن خانتهم بعض القلوب, وأنصتوا لوقع شتاتهم , أليس كلنا يتماهى بحلم لمستقبل مائز ومتميز عن الحاضر رغم تجاوزنا السبعين؟ هناك من يتذكر ويحلم في موسمِ الحبِّ  والوصلِ , يتنسم مع الريحِ أسْتَافُ الشوق من سراب المدى, رسائله أرهقتْ القلم  وشيَّعتْ قدماه  في مهبِ الرحيلِ , حيث مزَّق قصائده الخريفيةَ, التي بددَتْ حزنَ المدينةِ وأَججّْتْ نارَ السكينةِ , وخطفتْ القلب وتركته يبحث كيفَ السبيلُ؟ يقول من سوء حظي نسيت أن الليل طويل ومن حسن حظك تذكرتك حتى الصباح , هذا عمر بن أبي ربيعة يقول : ((وذُو الشَّوقِ القَدِيْمِ, وَإِنْ تَعَزَّىٰ مَشُــوقٌ حِيْنَ يَلْقَىٰ العَاشِقِيْنَا)) , تتوهج ذاكرة الخريف, وتسكنها المواعيد جذلى , لتعيد أمجاد سطوة الحب, الحضور في الذاكرة يجعل الدم , كزهر نوار اللوز, وقد أقام مهرجان فرح تحت ظلال الأقمار الزرقاء, ولكن علينا الحذر فالذكرى ثلج لا يُضمن الوقوفُ فوقه طويلاً . 

 

يقول دانتي : ((أشد الأحزان هو أن تذكر أيام السرور والهناء عندما تكون في أشد حالات التعاسة والشقاء)) , أما محمد بن سيرين فيذكر انه (( لا يبعث الأحزان مثل التذكر)) , ويقول عمر بن الخطاب : (( لا تستفزوا الدموع بالتذكر)) , ولا تفوتنا قصيدة ابن زيدون  (( يا ساري البرق غاد القصر واسق به....من كان صرف الهوى والود يسقينا....واسأل هنالك : هل غنى تذكرنا....إلقا، تذكره امسى يعنينا)) , مهما كان فأنت لا تريد لتلك الذكريات أن تنمحي من ذاكرتك, فلا شيء أقسى من ذكرى لم تكتمل, وإذا سلمت من رياح الذكرى ومن سكاكين الشوق فأنت بألف خير, لكن أحياناً في اللحظة التي نتمنى فيها النسيان, تغمس الأقدار أرواحنا في الذكرى أكثر, فإن غاب الهوى عنا ففي الذكرى تلاقينا .

 

أصعب ما في ذكرياتنا الحلوة أنها جزء من زمننا المنفصل عن حياتنا, حقا عشناه لكن كأننا ما عشناه نركض من أجله مرة أخرى عسى أن نستعيده نجتر صورة من الماضي عبثاً نحضنه, إنها الظلال وصور ورسوم وتمضي وكأنها لم تكن وما كانت, والذكريات الحلوة نجم في السماء يضيء لنا ودرة فخر تتلألأ ونزين بها كلامنا وناي نشدو به وسفينة أحلام نركبها ونبحر بها عبر الأيام الحاضرة بأمل استعادتها في القادم من أيامنا, الذكريات هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتغلب به البشر على الزمن , لأنّهم يؤكدون لأنفسهم بها أنهم لم يكونوا مجرد عابرين لهذه الحياة , والذكريات شيء فوق الإرادة, فوق القلب وفوق المشاعر لهذا هي لا تنسى , وهي إما لهيب يشتعل بالنفس نتمنى خموده, وإما نور نستضيء به في القادم من أيامنا وإما زلزال يحطم نفوسنا ولا نستريح معها, هذه هي الدنيا كالقطار يجمعنا في محطة ويفرقنا في محطة أخرى , ولكنّهم يبقون في قلوبنا وتبقى ذكراهم التي تركوها لنا, وأما الحاضرون في قلوبنا , فكل فقد دون فقدهم هين .

تعليقات

أحدث أقدم