ياسر عبدالعزيز
نعم عزيزي القارئ.. لم أجد عنواناً يعبر عن مكنون ما سألقي عليك أفضل من هذا العنوان، ولعلي لا أخفيك سراً أنه مستوحىً من كتاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذي اقتنيته أخيراً، والذي يحمل عنوان "نحو عالم أكثر عدلاً"، وعلى الرغم من أن المقال لن يحمل الطابع الفكاهي كما تخيلت، إلا أن ما سيحمله من مبادئ تحكم العالم لا يمكن أن تصنف إلا في خانة الكوميديا السوداء . وحتى لا أغوص في التاريخ ، لعل ما يعيشه العالم اليوم، من أزمة دولية لإنهاء المجزرة الحادثة في غزة، بدأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي انتصرت فيها أمريكا، لا الحلفاء كما يدرسونك في كتب التاريخ، على العالم أجمع، ولذلك أسباب لا مجال لذكرها حتى يطول المقال، إلا أن الحرب العالمية الثانية افرزت قوتين عظميين ورثتا العالم وقسمتاه إلى شرقي وغربي، حتى هذا التكتل المسمى دول عدم الانحياز كان منحازاً بامتياز، وظل الوضع على ما هو عليه حتى سقط الاتحاد السوفيتي ومن بعده سور برلين، إيذاناً بعالم جديد تنعق فيه أمريكا منفردة وتأمر فتطاع، بعد أن تمركزت أساطيلها في بحور العالم ومحيطاته، ورابطت قواتها البرية في محاور العالم الاستراتيجية وموارد طاقته من نفط وغاز، وسيطر دولارها على حركة التجارة العالمية .
في كلمته أمام منتدى الدوحة ، وأمام مرأى ومسمع من العالم وصف الأمين العام الأجرأ منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة ، أنطونيو غوتيريش مجلس الأمن الدولي بالمشلول ، متعهداً بعدم الاستسلام للضغوط ، بعد أن فشل في وقف إطلاق نار إنساني في غزة بعد أن قوض مشروع القرار بحق النقض (فيتو) الذي استخدمته واشنطن لكي تعطي فرصة أكبر للاحتلال لسفك مزيد من دماء الأبرياء في غزة ، ولعلي وصفت الرجل بالأجرأ لأنه الوحيد منذ إنشاء المنظمة الذي يستخدم المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة للفت انتباه مجلس الأمن ، بشأن الحرب على قطاع غزة ، وتداعيات مخاطرها على السلم والأمن الدوليين، وهو خطاب يبدو أن الخمسة الكبار في المجلس التنفيذي لا يقبله ، لأن العالم وقت تدشين هذه المنظمة كان على مقاسهم بتوزيع الأصوات بين الشرق والغرب مال كثيراً للغرب الذي تقوده أمريكا . حالة الحزن واليأس التي شابت كلمة الأمين العام للأمم المتحدة في الدوحة، وما سبقها من تحركات لإقرار السلم والأمن في العالم بوقف الحرب على غزة، حتى لا تتوسع والتي أفشلت بفعل الرغبة "الإسرائيلية" والغطرسة الأمريكية ، كانت كفيلة أن تحرك الفكرة التي كتب فيها أساتذة القانون الدولي العام وفلاسفة القانون ومنظري القانون الإنساني، بعد أن سقطت المنظمة الدولية في أغلب الاختبارات التي وضعت فيها، لتؤكد أن المنظمة الأممية لم تكن سوى سكرتارية تنظم وتمرر خططا توصل الدولة الأكبر والقطب الأوحد لأهدافه، وشرعنة إمبريالية جديدة بثوب الحداثة وعالم ما بعد الحروب الكونية . قد يختلف العالم في التأريخ لبداية هذا العالم أحادي القطبية الذي يتغطرس فيه ساكن البيت الأبيض المسيطر عليه بالأساس من عدد من اللوبيات كلها توصل للوبي أكبر يصنع رئيس أمريكا في غرفه ويربيه على عينه ، وعليه قس باقي البلدان المؤثرة أو الفاعلة في إقليمها ليكون مساعداً وداعماً لرئيس القطب الأوحد الذي بدأ عربدته ، بحسب رؤيتي، يوم أن قرر غزو العراق بمعزل عن الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن وجمعيته العامة، ليعلنها صراحة : "أنا القطب الأوحد ولا أريكم إلا ما أرى" ويتخلى عن دوره الذي وافق العالم بمقتضاه أن يقوده .. حماية الأمن والسلم الدوليين، لخلو ميثاق المنظمة الدولية من آلية حقيقية لحفظهما.
لم يكن العدوان على غزة منشئ حالة الرفض العالمي، الذي عبر عنه الأمين العام باعترافه بأن المنظمة الدولية فشلت في تحقيق أهدافها، ولكن عدوان غزة كان كاشفاً للمعايير المزدوجة التي يعيشها العالم في ظل هذه المنظمة الوظيفية للقطب الأوحد، كما كشف عن هذا العالم تحكمه المدرسة الواقعية السياسية التي ظهرت كرد فعل على تيار المثالية، عقب الحرب العالمية الأولى، فالمدرسة الواقعية السياسية باختصار تعتمد في تفسيرها للسلوك الخارجي للدولة أبرزها مفهوم الدولة، ومفهوم القوة، ومفهوم المصلحة ، والعقلانية ، والفوضى الدولية، وتعتمد على التقليل من دور المنظمات الدولية لصالح الاعتماد على الذات، ومن ثم تدفع بهاجس الأمن والبقاء، ما يعني أن القوة وحدها هي العامل المؤثر والذي عليه يمكن أن تكون الدولة فاعلة في محيطها أو في العالم، بحسب قوتها ومدى إمكانية تفعيل تلك القوة كرادع لحماية مصالحها، أو تحصيل منافع أو حتى وأد القوى الناشئة قبل استفحال قوتها . منطق القوة الذي بات يسيطر على القطب الأوحد مغترا بقوته وسيطرته وهيمنته عسكرياً وسياسياً، في ظل وكلاء يخدمون مشروعه الاستبدادي بدأ يتلاشى، برفع الغمامة عن أعين العالم الذي ساهم في رفعها طوفان الأقصى وصمود شعب أعزل أمام آلة حرب ثلاث دول كبرى تدعم الاحتلال لا لشيء سوى استمرار هذا الكيان الاستبدادي وعدم سقوط المشروع الإمبريالي برمزيته في "تل أبيب". لقد كانت جائحة كورونا علامة لم يستطع الغرب تجاوزها في ظل تعامل أكثر وحشية من القطب الأوحد والأنظمة المحسوبة على ايديولوجيته، فبعد أن كان العالم الغربي يشهد هذه الوحشية في أفغانستان والعراق والسودان واليمن وكوبا من قبل وفيتنام وفي فنزويلا، وأخيراً في غرب إفريقيا، طاله الظلم من تلك الأنظمة التي أدمنته فانتفض رعباً قبل أن ينتفض غضباً على إثر المذابح التي ترتكب في غزة . يقول أردوغان في كتابه، نحو عالم أكثر عدلاً: "لا يمكن ترك مصير البشرية لأهواء عدد محدود من البلدان في عصر يواجه فيه العالم مشاكل جسيمة" لكن الحقيقة أن هذه البلدان لا يمكن لها أن تترك لتعربد في مصائر العالم وتستهين بدماء البشر ومقدراتهم من أجل هوى متبع وإعجاب بايدلوجية أثبتت وحشيته وحولت البشر إلى وحوش استهلاكية مستعبدة من أجل آلة الإنتاج الاستعمارية وقسمت العالم بين سيد يسيطر وعبد يطيع، وإن حاول رفع رأسه تتداعى عليه السادة ليكون عبرة لمن يفكر .
(التضحية هي قمة الإنسانية.. وسنامها مقاومة الظلم)..
إرسال تعليق