ذكريات شرفات شارع غازي

مشاهدات



 د. وليد الصراف

 

كنت في الابتدائية وكان ابي يصحبني أحيانا الى مقهى يُرقى اليه بدرج في شارع غازي له شرفات تطل على الشارع  . مقهى يستشعرالجالس فيه في ذاك الزمن انه قديم بمقاييس ذاك الزمن القديم نفسه . صاحبه رجل مسنّ لم يتزوج يدعى ابو داوود ينام فيه وحيدا بعد أن تبتعد الخطى عن الشارع ويذهب الناس الى بيوتهم , 

 

ومما يروى عن هذا الرجل غريب الاطوار أن قدمه زلت فتدحرج مرة من الدرج وهو يستحم حتى وصل الشارع عاريا ورآه المارة , كان هذا الرجل يمتلك اسطوانات نادرة لسيد درويش وسيد أحمد وأم كلثوم وعبده الحمولي وسواهم ولم تكن تمتلكها وتبحث عنها الاذاعات العربية . أذكر جلوسي في الركن مصغيا الى هذه الاصوات التي تنتشلني من احاديث الكبار الشيّقات فأذهب ماخوذا بالعالم الذي تشيعه رغم انني لم اكن افهم احيانا بعض كلماتها , أراني  حين استعيدها بعد هذه السنوات الطويلة كانني استعيد مايشبه الاحلام كما قال شوقي تسمع اشارة :  اسطوانات كايرفون أو اسطوانات بيضافون ويأتي بعد ذلك صوت عذب يفتح في الوقت كوّة تطل على عالم خارج الزمان والمكان يعبق فيه النقاء ويشف الطهرعلى العكس من أغنيات هذا الزمن حيث يستعيضون عن الصوت الملائكي الاعزل بالنعيب المدجج بالمايكرفون وعن اللحن الثمين باللحم الرخيص وعن الكلمات التي كان يكتبها شوقي وبشارة الخوري وبيرم و... بالكلمات التي يكتبها ...و...و... كانت الموصل وقتها مدينة بما تعني الكلمة من معنى نظافة وأناقة  , كان الناس في بحبوحة حتى الفقير كان يجد رغيف الخبز وواسطة النقل والملبس والسقف , الغني يحنو على الفقير ولافساد اداري والهدوء يسود حيث لازحام وكان ثمة (باصات مصلحة ) تجوب المدينة من اقصاها الى أقصاها فلو تأخرت دقيقتين تسمع التذمر على السنة الواقفين تحت المظلة بانتظارها . وكان ثمة مصاطب على الضفة ويخت يجوب بالراكب دجلة بابخس الاثمان . 

 

قبل ايام مررت من شارع غازي ورفعت عيني الى العمارات وعبثا حاولت أن اجد المقهى رغم أن المكان لم يطرأ عليه أي تغيير . اين ذهب المقهى ؟؟ أين اتجهت الاقدام التي كانت تختلف اليه ؟ كم منها ذهب الى المقبرة وكم منها ادركها الوهن فقرّت في البيوت وكم منها تجوب شوارع الموصل الان وقد نسيت المكان والمكين ؟من يتذكر الصباحات والاماسي والاحاديث والاصوات التي دارت في كل ركن من اركان المقهى؟  وأين ذهب الرجل وماذا حلّ باسطواناته النادرة ؟ لم يبق شيء من المشهد سوى هذا الحلم العذب الذي رويته لكم والذي أصحو منه الآن .

تعليقات

أحدث أقدم