رحل أبو الغيط إلى الضوء وتركنا في عتمة السؤال

مشاهدات


 

ياسر عبدالعزيز



اختار الموت أن يحرم يحيى من مشاعر الأب وحنانه وتخوفاته واختلافاته اختار أن يحرم الطفل الصغير من أمان الأب في سني الطفل الأولى اختار أن يحرمه من نصائحه وتوجيهاته يحرمه من متعة اللعب معه يحرمه من نظرة إعجاب حين يحرز أول هدف له في مباراة يحضرها أبوه . في صراع حاول فيه أن يهزم المرض اللعين كتب محمد أبو الغيط  - أو أبو يحيى كما كان يحلو له أن يناديه المقربون- واحدا من أروع الكتب كتاب يمكن تصنيفه في تصنيفات الكتابة "بأدب المرض" كما أدب المهجر وأدب الرحلات وأدب السجون وغيرها كتب أبو الغيط وهو رافض الفكرة قبل أن يعدل عن رأيه فقال "لست متحمسا لتوصيف مقاتل السرطان الذي يضفي توقعات لا تتوافق مع كل المرضى لكنني في هذه اللحظات استحضرت هذا الوصف سأقتله وأنتصر عليه في هذه الجولة على الأقل" .

 

"أنا قادم أيها الضوء" هي كلمات أبو الغيط الأخيرة التي روى فيها تجربته مع المرض تجربة لم تخلُ من الألم الممزوج بدفقات أمل كبيرة بتفاصيل إنسانية تقرأ بالوجدان لا باللسان تلامس القلب قبل أن تلامس أصابعك صفحاته لتغوص في سلاسة الكلمات ودقيق التعبيرات وصدق المشاعر. كتب أبو الغيط "وجدتني لا أكتب يوميات مريض بل أكتب أحداثًا ومشاعر ما جربته وما تعلمته سيرة ذاتية لي ولجيلي أيضًا ودون ما أشعر عبرت كتابتي من الخاص إلى العام وهكذا تنقلت بين شرح علمي إلى أخبار التطورات السياسية ومن تفنيد خرافات حول ما يسمى (الطب البديل) إلى متابعة وفاة الملكة إليزابيث أتأمل في الموت والحياة". كان همّ أبو الغيط هو هم  كثير ممن عشق الكتابة ومارسها وله منها مآرب فأما الأول فهو معركة الوعي التي هي معركة كل مخلص اختار الكتابة سلاحا مع علمه أنه محاسب على كل كلمة يكتبها وهو في ذلك محاصر بين الجهل والتجهيل والنفاق فالأول نتاج قرون من الإهمال من جهة وشظف العيش من جهة ثانية والثاني نتاج طمع السلطان ومحاولاته لفرض بيئة يستطيع فيها تسييس الناس من دون عناء ولا معارضة صحفي أو كاتب قد يكشف الغطاء أمام الجماهير . وأما مأرب الكاتب الثاني فهو محاولته تخليد ذلك الاسم الذي قد يبقى بعد أن يفنى الجسد أو يفنى معه تلك الفكرة -فكرة الخلود- هي شاغل كل من نظر نظرة إلى السماء فرأى ملوك الأرض من المفكرين والمبدعين والفلاسفة بناة الأمم يتلألئون فهي الفكرة التي تسيطر دوما علي لا سيما عند خروجي للصحراء بعيدا عن أضواء المدن التي تسرق بأضوائها أضواء النجوم  فدوما كنت أعتقد أن هذه الأعداد المهولة من النجوم التي تكاد تتلاصق ما هي إلا أرواح المبدعين والمؤثرين الذين قدّموا لصنيعة الله ما أرضاه فكرمهم بأن يظل نورهم يكشف عن هذه الأرض البائسة الكثير من ظلام الظالمين وعتمة المنتفعين من عذابات البشرية .

 

لما كان الموت هو حقيقة فإن الحياة من ثم زائفة يغتر بها من يغتر فيعيش ويموت مستهلكا وما أكثرهم أما الكيّس فهو من عرف الحقيقة وعمل لها وهو ما جعلني شغوف بالتاريخ الفرعوني وفكرة الخلود التي تحدثت عنها المدارس الدينية على مر أسرهم الثلاثين لكن كنت أعيب على تلك المدارس منهجها إذ انصب جل اهتمام كهنتها على تخليد الملك ومن حوله وكأن باقي الرعية لا يستحقون هذا الشرف ففكرة التحنيط التي أبدعوا فيها لم يحظ بها إلا الملك وملؤه لذلك لجأ أصحاب الفكر والبناء إلى تخليد أنفسهم بالإبداع في ما يصنعون فتكون أعمالهم شواهدهم بغير أهرامات ولا مسلات أو جداريات على أبنية المعابد فلقد أجبروا أصحاب الحق في الخلود أن يخلدوهم بما أنعموا عليهم من نتاج أفكارهم  فتجد إمحوتب أول مهندس معماري في التاريخ وكذلك أول طبيب رُفع إلى درجة معبود بعد وفاته وأصبح إله الطب وإن خلد إمحوتب باسمه ورسمه ممثلا عن طبقة الأطباء والمهندسين في زمنه، فقد خلدت أعمال المعلمين في ما تركوا والمربين وأصحاب الحكمة في مخطوطاتهم كتلك التي وجدت في مقبرة توت عنخ آمون والتي تظهر تأثير تلك الطبقة المهمة في حياة البشر وتأثيرهم الواضح في مجتمع الملوك فوثيقة "بتاح حتب" -مثلا- تكشف عن إبداع مربٍّ أراد البقاء أبد الدهر بتعاليم لا زالت تنير طريق النشيء في تعاملهم مع هذا العالم . 

 

لم أعرف محمد أبو الغيط إلا في تغريداته الأخيرة التي تحكي آلامه وأوجاعه وهي التغريدات التي دلتني على إنسان مرهف الحس وجدت في كتاباته ما يشابهني من توق لخوض غمار معركة الوعي وتسطير سطر في كتاب هذا الكون يبقى بعد أن يرحل ويبقي سؤال : لماذا أكتب ؟ ليجيب : أكتب لأن الكتابة أثري في الحياة هي أهراماتي الخاصة فإلى متى ستبقى منتصبة من بعدي ؟

 

المصدر : الجزيرة-نت

 


 

 

تعليقات

أحدث أقدم