ما بين الصدر والحائري والولي الفقيه

مشاهدات


 

د. فارس الخطاب

 

لم تمر مفارقة التوقيت المشترك لإعتزال المرجع الشيعي كاظم الحائري العمل الشرعي مع قرار مقتدى الصدر إعتزال العمل السياسي في ذروة الصدام بين أتباعه وأتباع الإطار التنسيقي وفي لحظة بدى فيها العراق على شفا المواجهة بين أطراف اركان العملية السياسية بطرفها الشيعي تحديداً لحسم الملف الخاص بإجتثاث الفساد والتبعية للأجنبي والتي طالما كانت من أبرز سمات قوى الإطار التنسيقي لم تمر هذه المفارقة  مر الكرام حتى على أبسط الناس معرفةً بالتحليل السياسي للخطب والبيانات الصادرة عن كل أطراف هذه المعادلة . لقد كان أسلوب الحائري مع مقلده مقتدى الصدر جارحاً ومهيناً إلى درجة كبيرة حيث نزع عنه صفة العلم الشرعي كما أكد بوضوح عدم قدرته على القيادة الشرعية بما تستجوبه من قرارات ومواقف وصولاً إلى إلغاء سمة إنتماءه إلى الصدريين (محمد باقر ومحمد الصادق) إلا بالإسم فقط . هذا جانب أراد منه الحائري أن يصادر مكانة الصدر بين أتباعه سياسياً قبل أن يصادرها شرعياً وبالتالي لم يبق أمام الأخير سوى أن يطأطأ رأسه إما حرجاً أو تكتيكاً لتفويت الفرصة الكاملة للنيل منه في أجواء ملبدة بإتجاه واحد ألا وهو إنهاء دوره في أي حراك جماهيري ومن هنا تأتي الخطورة الثانية في بيان كاظم الحائري والتي حسم فيها حسب اعتقاده وإعتقاد موجهييه ، تلك هي أوامره المشددة للصدر وسواه أن يكون الولي الفقيه ،علي خامنئي ، مرجعهم الوحيد، وهنا برز بوضوح دور الولي الفقيه ذاته في حشر مقتدى الصدر بزاوية "طاعة" الولي الفقيه ، وهو ما يمكن أن يقلب المعادلات العراقية بالكامل ، ولإجل غير محدود لصالح إيران ومشروعها السرطاني الخطير في العراق وكامل المنطقة . 

 

مسوغات هذه التحليلات لبيان الحائري كثيرة وواضحة جاء بعضها من تحليل هذا البيان وجاء الآخر عبر تحليل خطاب مقتدى الصدر والطلب من تياره الانسحاب من المنطقة الخضراء بالكامل خلال ساعة واحدة  فالحائري تلميذ محمد صادق الصدر والد مقتدى هو مرجع موثوق لآل الصدر وبتوصية من والدهم شخصياً ولطالما نفذ مقتدى جميع أوامره وتوجيهاته حرفياً ودون نقاش وهذا سلوك شيعي عام تجاه مراجعهم  ولكن عُرف عن مقتدى صرامة تنفيذه لكل توجيه أو طلب من الحائري والجميع يعلم أن سلوك الصدر ومنذ السنوات الأولى لما بعد إحتلال العراق كان (مشاكساً) للقوى التي تمارس الإساءة "للمذهب" وترتكب عمليات فساد وكانت له أدوار مشهودة منذ عام 2014 م في كل الأحداث التي شهدت حراكات جماهيرية وتظاهرات مطلبية أو وطنية أنتقدت الوجود الإيراني في العراق  ورغم ذلك لم يصدر عن كاظم الحائري أي توجيه له بعدم المشاركة في الأنشطة السياسية أو إظهار فقره لإدوات القيادة الشرعية ، فلماذا الآن ؟ إن العراق والعراقيين اليوم وخاصةً بعد الحصاد المشهود لثورة تشرين 2019 م  ليسوا ذاتهم الذين كانوا قبل هذا التاريخ  كما أن أرباب العملية السياسية الذين إنحنى معظمهم لإجواء تشرين الثورية لم يستوعبوا الدرس الحقيقي لهذه الإنتفاضة وهو أن درجة الوعي عند العراقيين لم تضعفها محاولات المد الطائفي ولا أموال الفساد ولا تغيير مناهج التعليم أو المحاصصة البغيضة كما أن قدرتهم على التخطيط والصمود ثم المواجهة قد زادت وزاد ذلك فوز الصدر بإعلى الأصوات في انتخابات تشرين 2022 م وإصراره على تشكيل حكومة أغلبية بما دق ناقوس الخطر من داخل البيت الشيعي السياسي ومن ورائهم إيران التي تمر بمرحلة حرجة لإجتياز موضوع الاتفاق النووي بما يرفع عن كاهلها العقوبات الاقتصادية الكبيرة وما يرتبط بها من قرارات . 

 

لقد خرج مقتدى الصدر عن حدود الممكن في البرنامج الإيراني الخاص بالعراق وأوجد بشكل واضح شرخ  في إيمان ومعتقدات عامة العراقيين والشيعة منهم خصوصاً بحتمية الرضوخ للأمر الواقع والقبول بقدرة إيران على التحكم بمقدرات العراق وشعبه ومن هنا وبعد سلسلة من الإجراءات الإيرانية سواء المباشرة أو عن طريق وكلائها الرسميين في العراق شملت الترغيب والترهيب للصدر تيقنت طهران أن الصدر سلك طريقاً وعراً وصعباً ولا يمكنه التراجع عنه فيما يشكل هذا الطريق إذا ما أستمر به مشاكل كبيرة وجوهرية للوجود والمشروع الإيراني في عموم المنطقة إنطلاقاً من العراق . لم يبقى من المحاولات إلا الضغط على كاظم الحائري من قبل المرشد الأعلى شخصياً لإغلاق هذا الباب بشكل نهائي وهو ما أشار له الصدر بوضوح في بيان إعتزاله العمل السياسي وكأنه يقول لمرجعه الحائري " إني أتفهم موقفك وسأنفذ طلبك فوراً ... ولكن إلى حين" نعم إلى حين فما كادت سويعات تمضي من المؤتمر الصحفي للصدر عقب إعتزاله العمل السياسي وسحب رجاله من المنطقة الخضراء حتى عادت بعض تغريداته وعاد وزيره إلى إستخدام أشد العبارات بحق قادة الإطار التنسيقي ، بما يعزز فكرة "التكتيك" عن الإستسلام  وقد ظهر الموقف الصدري واضحاً في تغريدة مقتدى الصدر حيث قال على صفحته في تويتر  "يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائري أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم  كلا  إن ذلك بفضل ربي أولا ومن فضل والدي محمد صادق الصدر الذي لم يتخلَّ عن العراق وشعبه" . قد تكون محاولات إيران ثني أو قتل أي محاولة للعراقيين لإسترداد سيادة وطنهم كثيرة وخطيرة ودموية كما كان دورها في أحداث (الإثنين الدامي) في المنطقة الخضراء لكن الشعب الذي يريد الكرامة والحياة لن تثنيه أنهار الدم التي يقدمها لهذه الحياة الكريمة سواء كان الصدر في المشهد أم سواه  ولطالما كان العراق تاريخياً عقدة إيران في التوسع أو خطف عاصمة التشيع العربي من النجف الأشرف إلى قم الفارسية  وسيكون للمشهد المقبل ميزة توظيف التجارب ودروسها  وهو قريب بما يصدق به الإيرانيون وذيولهم قبل غيرهم .



تعليقات

أحدث أقدم