دراسة التأريخ

مشاهدات


ضرغام الدباغ

 

علم التاريخ (Historiography) هو غير الكرونولوجي (Chronology /  التسلسل الزمني) وعلم التأريخ والتضلع بعلم التأريخ من العلوم الصعبة التي تحتاج لعمل ودراسة وتتبع كثيف . وتحتاج لمعارف واسعة من فهم عميق لعلم ألأجتماع وألإقتصاد والسياسة ...الخ ليتسنى للباحث في التأريخ أن يتفقه في التحولات التاريخية واستحقاقاتها. ومن بين الكثيرين ممن يعتبرون أنفسهم مؤرخون هم في الواقع مدونون في أفضل الأحوال ومن بين المصطلحات والمفاهيم التي نتداولها يومياً منها كيف ولماذا نعتبر هذا " حدث تأريخي " وتلك نعتبرها " ردة " لماذا نعتبر هؤلاء ثوار وأولئك " قوى ثورة مضادة (Counter revolution) هذه مسألة مهمة جداً...!


عملية تاريخية وأخرى لا  ....!

سألني صديق كيف نقيم هذه العملية بأنها تاريخية وأخرى ليس لها هذا الوصف والتقييم ..؟ وهل هناك عمليات تأريخية وأخرى غير تأريخية ...  نعم بالطبع يمكننا قول ذلك بالتأكيد ... العملية التأريخية هي نتاج تفاعلات تطرح القديم المتهالك الذي أنتفت مبررات ومستحقات وجوده لتبرز مرحلة جديدة مستوفية لشروط الحياة ومعطياتها ولمثل هذه العملية والتطور يقال عنها تأريخية أما إذا إفرز الموقف حالة تتراجع عما سبقها فهي حالة غير تأريخية لأنها مخالفة لشروط التطور التاريخي . الثورة المضادة وقوى الثورة المضادة (Counter revolution) هي تلك القوى التي تريد إعادة عقارب الزمن إلى الوراء وإلغاء المستحقات ألتأريخية التي فرضت نفسها على الواقع الموضوعي . وتعتقد إن هي وفرت القوة المادية حتى الأسلحة والمعدات ومقاتلين فهي قد تربح المعركة وفاتها أن الاستحقاق التأريخي إنما إذا حل فلا أحد يمكنه إعادة الزمن .. وما يمكن أن تنجح به قوى الثورة المضادة هو ليس نجاحاً بل هو تعطيل ولادة .. وحين يستأنف دولاب الزمن مسيرته يبدأ من حيث توقف فيها عن الدوران وتلغى هذه المرحلة المظلمة .


الثورة والثورة المضادة وجدت أفضل تعبيرها في أسبانيا ألتي إنتقلت للنظام الجمهوري بعد فشل وأنهيار النظام الملكي في ثلاثينات القرن الماضي إنهار النظام الملكي في أسبانيا نتيجة عجزه ودون تدخل من قوى داخلية أو خارجية وقرر الشعب الاسباني قيام جمهورية ولكن جنرالاً فاشستياً (الجنرال فرانكو) رفض هذا التطور وأعلن التمرد وحارب الجمهورية وكسب الحرب مدعوما من القوى الفاشية والمعادية للتقدم . وكانت الجمهورية بايدي قوى وطنية تقدمية : الحزب الشيوعي الاسباني والحزب الاشتراكي الأسباني والنظام تدعمه الجماهير الشعبية بأعلى أشكال الدعم والتأييد والجمهورية لم يكن يؤيدها سوى الاتحاد السوفيتي البعيد جغرافيان والمحاصر سياسياً والاحزاب العمالية والاشتراكية في أوربا والعالم . ولكن كان هناك في معسكر الفاشست رجل ضعيف البنية ولكن جبار العقل . تجاسر ووقف بوجه الجنرال وهو الفيلسوف ميغويل دي أونا مونو (Miguel de Unamuno) البروفسور العجوز عميد جامعة سلامانكا والبروفسور كان متعاطف أصلاً مع اليمين وألإنقلاب بل وكان حتى قد تبرع بالمال أيضاً من أجل : نضال الحضارة ضد الظلم والتعسف ولكنه شعر بالاشمئزاز من الإرهاب الفاشي الدموي وشعاراتهم المبتذلة البذيئة التي أحتقرها كمثقف .  في 12 / تشرين الأول احتفلت الشخصيات البارزة التي اختارت مدينة سلامانكا كمقر لقيادة التمرد الفاشستي في مبنى الجامعة بمناسبة اليوم السنوي لاكتشاف القارة الأمريكية بواسطة الأسباني كولومبوس ومن أجل أسبانيا . وفي هذه المناسبة القى الجنرال الفاشي ميلان أستراي (من أبرز أعوان فرانكو) خطاباً وهو الذي كان يستغل كل مناسبة من أجل عرض ما تريد الفاشية عرضه . وفي خطابه أدعى أن أكثر من نصف الأسبان هم مجرمين وخونة . ووصف مقاطعة الباسك وكاتالونيا بأنها كالسرطان في جسم الأمة وإن اللحم الصحي هو الأرض واللحم المريض هو الشعب وإن الفاشية والجيش سيقومان بالإصلاح اللازم وتقديم الأرض كمنحة مقدسة . وتعالى هتاف الحاضرين " يحيا الموت " ثم رفعوا أذرعهم بالتحية الفاشية وهم يصرخون : فرانكو ..فرانكو ..فرانكو . أرجو الأنتباه لفلسفة الفاشية ... حول التأريخ والخيانة والوطنية ..! وهنا نهض عميد الجامعة وساد القاعة صمت الموت عندما بدأ البروفسور الحديث :  " أريد أن أقول شيئاً بالنسبة إلى الخطاب لنسميه هكذا الذي ألقاه الجنرال ميلان أستراي . لندع الإهانة الشخصية جانباً وأنا الذي ولدت في بلباو الباسكية وأسقفنا كان كاتالانياً من برشلونه . ولا أدري إن كان هذا سيسمع برحابة صدر أم لا . ها أنا أسمع صيحات مجنونة " يحيا الموت" .. وأنا الذي أمضيت سنين أعمل في التناقضات واللامعقول أقول لقد صدمني هذا اللامعقول . وإذ أجد نفسي بين المتـحدثين فأنني أريد أن أوضح شيئاً إن الجنرال ميلان أستراي قد قرر بنفسه بأنه رمز للموت.. والجنرال أستراي هو من ذوي العاهات ولسوء الحظ يوجد اليوم كثير وكثير جداً من ذوي العاهات في أسـبانيا وقريباً سيكونون أكثر إذا لم يرحمنا الله . هنا يحاول واحداً من ذوي العاهات أن يبسط سؤالاً وجيهاً يشبكه في محيطه الجنرال ميلان أستراي يريد أن يصنع أسبانيا جديدة على صورته هو لذلك فهو يريد أسبانيا معوقة وهو ما أوضحه لنا بشكل لا يقبل الالتباس ". وإلى هنا لم يستطع الجنرال أن يتحمل فهتف مزمجراً " الموت للمثقفين" انفجرت خلفه عاصفة وألتف أتباعه حول بطلهم الذي أهين وآخرين وقفوا أمام منصة عميد الجامعة البروفيسور أونامونو الذي تابع خطابه : 

" هذا هو معبد للعلم والتعلم وأنتم خرقتم قدسيته ستكسبون ولكنكم لن تنتصروا ستكسبون لأنكم تمتلكون العنف المجرد ولكنكم سوف لن تنتصروا لأنكم ومن أجل النصر فالقناعة والإيمان ضروريين . ومن أجل القناعة يجب أن يكون لديكم ما تفتقدونه وهو التفهم والحق في هذا النضال . ومن واجبي القول إنه أمر عديم الجدوى لفت أنظاركم أن تفكروا بأسبانيا ليس لدي ما أقول أكثر . "وقبل أن تهجم أيادي الكتائبيين تمكن أحد الأساتذة من سحب البروفسور أونا مونو إلى خارج القاعة وإنقاذه وفيما بعد أقصي البروفسور عن وظيفته وفرضت عليه الإقامة الإجبارية في منزله وبعد أسابيع قليلة أصيب بجلطة في قلبه وألتحق نجله بمليشيات الجمهوريين قبيل وفاة والده الذي كان وصف المتمردين الفاشست بنظام الإرهابيين والحمقى . لست بصدد محاضرة عن علم التأريخ بل أورد هذا الشرح وهذه الحادثة من التأريخ الأسباني الحديث للعبرة وألإعتبار والفرق بين الحدث التأريخي الذي يؤشر لشيء وبين طغيان وديكتاتورية لا تفضي لشيء ... فالمؤرخ شيء ومدون التاريخ شيء آخر ... كما أن الثورة شيء  .. والثورة المضادة شيء آخر ... والكسب شيء... والنصر مصطلح آخر  تماماً ....!


رحم الله الكاتب العراقي الكبير عبد الرزاق الحسني الذي قدم خدمة تاريخية عظيمة للعراق بتجميع لتأريخ الوزارات العراقية (10 أجزاء) وهو عمل أروع بكثير من أعمال  الكثيرين من مدعي العلم ومن حملة الألقاب الكبيرة المجوفة فجمع تأريخ العراق الرسمي ولكن دون أن يكتب كلمة واحدة من عنده وهذا ما منح الكتاب المصداقية وكان يرفض رحمة الله عليه أن يعتبر مؤرخاً . بعد تخرجي من جامعة لايبزغ بألمانيا عام 1982 قمت بإهداء الموسوعة الرائعة " تأريخ الوزارات العراقية بأجزاءها العشرة لمكتبة الجامعة مع نحو 100 كتاب باللغات العربية والانكليزية والألمانية كان سرور المكتبة الألمانية خاص بمؤلف السيد الحسني .

تعليقات

أحدث أقدم