ضرغام الدباغ
كتب لي صديق يسألني عن سر غزارة إنتاجي (حسب وصفه) وبرأيه أن هذا يتطلب وقتاً ... فضحكت وأجبته الوقت هو أكثر شيئ متوفر عندنا ...! وبهذا الخصوص أذكر في مطلع شباب حين قرأت كتابا للفيلسوف البريطاني كولن ولسن أعتقد كان " طقوس في الظلام " يروي فيها جانب من سيرته في عالم الثقافة والفكر أنه وعقب تسريحه من الخدمة العسكرية (القوة الجوية الملكية) تفرغ كلياً للقراءة مستفيداً من نظام يبدو كان سائداً في الجيش البريطاني إذ يمنح المسرح من الخدمة مكافأة تعينه على التكيف مع حياته المدنية . وهكذا أمضى ولسن مدة طويلة جداً كزبون دائم في مكتبة المتحف البريطاني بلندن يقرأ ويقرأ .. ولا شيئ غير القراءة . أذكر أني حسدته على هذه الفرصة الذهبية ولكن الأقدار منحتني فرصاً مماثلة سواء خلال خدمتي الطويلة في قوات الحدود أو في الإقامة الطويلة في السجون (18) سنة التي كنت أحولها إلى فرصة ذهبية للقراءة بدون أنقطاع . ولا أنكر أن تأثري العميق بكولن ولسن دفعتني للمزيد من القراءة .. ثم من خلال مطالعتي لشخصيات الحرب الأهلية الأسبانية ومنهم القائد الاشتراكي الكبير لارغو كاباليرو الذي كان قد أمضى سنوات طويلة في السجن وكان عاملاً أمياً تعلم القراءة والكتابة وبضعة لغات وخرج من السجن مثقفاً يشار له بالبنان . وكانت الكتابة عندي (منذ 1975) أي منذ بدأت الدراسات العليا قد تحولت إلي عمل لا شأن له بالمزاج أو ازدحام جدول الأعمال فالقراءة والكتابة دائماً على رأس جدول الأعمال ولا يقعدني عنها سوى المرض الشديد حتى في حالات الرقود في الفراش (وهي أسوء أصناف القراءة) فهناك الكثير من القراءات الخفيفة التي لا تحتاج إلى تركيز شديد أو كتابة ملاحظات على طاولة المكتب . كنا قد تلقينا أثناء دراستنا الجامعية العليا في ألمانيا أصول التعلم والمعرفة واكتساب الحقائق وتكريسها وتطوير الإدراكات متميز الجوهري من السطحي والرئيسي عن العارضي وصياغة قواعد وقوانين واستنباط غيرها الأمر الذي يكَون معرفة دقيقة بل حاسة في معرفة الكتاب الغث منه والسمين والتدرج في تجرع العلم والمعرفة وهكذا فقد وظفت كافة امكاناتي العقلية والمادية في دراسة مكثفة ومعمقة مستغلاً كل ما هو ممكن ومتاح في هذا المجال .
وهكذا كانت احتياجاتي داخل السجن من المواد : كتب مجلات تخصصية كانت تردني دون انقطاع وليس بوسعي أن أشكو أحداً من أهلي وأصدقائي فقد كانوا يلبون كل طلباتي وكذلك حاجاتي من الورق والدفاتر والأقلام وأخوة من النزلاء كانوا يسرعون ويقدمون لي ما لديهم من الأوراق والأقلام والدفاتر ولا أنسى ألطافهم نحوي أمثال الأخوة : الأخ الحاج عامر الجزائري والأخ ميثم البصري والأخ غالب أبو إبراهيم وغيرهم . القراءة والدراسة كانت جنة السجين يهرب إليها من جحيم السجين وبالنسبة لي كانت تمثل أجازة طويلة للقراءة والعمل المفيد الممتع فأنا لم أضيع ولا يوماً واحداً مجاناً سوى مرحلة التوقيف وفي زنزانة الإعدام حيث كانت المواد للقراءة غير متوفرة ولا الورق والقلم .. كنا فيها نكتفي بأحاديث لها طابع تاريخي معلومات عن أحداث مهمة تأريخ دول أسباب الحروب المهمة والصراعات الكبرى في التاريخ ..الخ ولكن من المؤكد أن النزلاء لم يكونوا جميعاً بنفس الرغبة الجامحة في القراءة والبحث والسبب هو أن القراءة بهدف تكوين تراكم ثقافي يستلزم شروط ذاتية وموضوعية عديدة وليس ضرورياً أن يكون الجميع على درجة واحدة من الاهتمام نعم إن الثقافة العامة مهمة ولكن العمل في قطاع في قطاع التكنولوجيا مهم أيضا ثم أليس البحث في علوم الهندسة والطب مهم بديهي أن هذه الاتجاهات مهمة ومن المؤسف أن بعض الأخوة من النزلاء ممن لديهم اهتمامات علمية صرفة تعذر عليهم متابعة تخصصاتهم بسبب الظروف المحيطة حيث يصعب وجود مختبرات علمية أو ورش عمل تكفي طموحهم وإن كان بعضهم قد أقدم على محاولات جريئة منهم الأخ د. محمد الخياط الذي أنجز ترجمة بحث مهم عن موضوع كنت أمتلك معلومات بسيطة عنه وهو زراعة الكمأة وكنت أتصور أنه سر من أسرار الطبيعة وأنه لا يزرع أبداً.. وكذلك الأخ الدكتور معن محمد رشاد الذي أنجز بحثاً عن أمكانية تأسيس معمل بسيط للماء المقطر . كان تواجد الأدباء والكتاب في السجن نادراً أذكر منهم : المرحوم القاص العراقي الكبير محمود جنداري و د. جليل كمال الدين أستاذ الأدب الروسي ومترجم لعدد كبير من الأعمال المهمة منها رواية وداعاً غولساري لجنكيز أتماتوف والكاتب والأديب شوقي كريم حسن كما كان أخ فاضل وأديب من آل الأعسم وعلى حد علمي فأن الأخ المرحوم محمود جنداري كان يعمل داخل السجن وكذلك الأخ شوقي كريم حسن كما أن الأخ د.عبد الكريم هاني (طبيب) أنجز ترجمة رائعة عن تاريخ حضارات المكسيك وبلغته الإنكليزية الرائعة قدم للمكتبة العربية كتاباً عملاً مهماً للغاية . وأعرف أن زميلاً كريماً من دبلوماسي وزارة الخارجية في السبعينات سجن لفترة تزيد عن عشرة سنوات كان قد ترجم أعمالاً مهمة وهو الأخ الأستاذ عطا أمين وربما هناك من لم يطرق سمعي أسمه الكريم أو أعماله ولكن عدا هذه الأسماء كان هناك من يبدي اهتماما بالمطالعة والقراءة الجدية وربما هناك محاولات كتابية شعر قصه قصيرة رسم محاولات بحثية وكان بعضهم موهوباً حقاً ولكن الموهبة بحاجة إلى التواصل والتصميم مثل الأخوة : أحمد الصافي وفالح مكطوف وأحمد عبد الستار وأزهر عدنان وسعدون عبد الأمير وعامر غانم وفؤاد الطرفي ورزكار عزيز وفؤاد توفيق وعبد الرزاق سعد حرج ونشأت فرج وحسين صالح جبر وكان آخرون يهتمون بمطالعة الصحف والمجلات بهدف التسلية وقضاء الوقت أو مطالعة كتباً ودراسات ذات الطابع الديني . كانت هذه الأفكار والهواجس تدفعني إلى الغوص في بطون التاريخ والوصول إلى أعمق نقطة وقد قرأت عدة كتب : كانت محرضة لي على هذا الغوص منها : تاريخ الملوك والبلدان للطبري ذو الأجزاء العشرة ثم كتاباً رائعاً مع تحفظي على بعض أجزائه للكاتب البريطاني/ اللبناني الأصل البرت حوراني : الفكر العربي في عصر النهضة فابتدأت رحلة طويلة منذ العام 1988 الاهتمام والتركيز والتخصص في دراسة الشريعة ـ المعاملات ـ الفكر السياسي العربي / الإسلامي وهناك الكثير من الكتب التي مثلت مصابيح هادية قوية منها : الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي والسياسة الشرعية في أصلاح الراعي والرعية لأبن تيمية وروح الدين الإسلامي لعفيف عبد الفتاح طبارة وكتاب الخراج للقاضي أبو يوسف والمقدمة لأبن خلدون والسيرة النبوية لأبن هشام وغيرها مئات من الكتب العربية والأجنبية أبرزها موسوعة تاريخ العرب (أربعة أجزاء) لمجموعة من العلماء الألمان( وقد ترجمتها بنفسي إلى العربية) تاريخ العرب والشعوب الإسلامية لكلود كاهن . والقراءة الكثيفة مع تسجيل الملاحظات والاستنتاجات والتوصل إلى أفكار جديدة يدفع كما الحال في عملية خلق فكري يدفع إلى استنباط وسائل لطرح هذا الموضوع أو ذاك واكتشاف اتجاهات لم يشبعها الباحثون بحثاً ثم تخلق أراء جديدة وهكذا وجدت أن البحث يستلزم سبر غور وغوص عميقاً إلى الجذور الحقيقية للفكر العربي الإسلامي تعود إلى أسس الحضارة التي قامت قي الأمصار العربية : وادي الرافدين بلاد الشام وادي النيل الجنوب العربي اليمن وحضرموت ووسط شبه الجزيرة العربية والفهرس الذي توصلنا إليه هذا الجهد أنتج مؤلف من جزئين بعنوان : تطور نظريات السياسة والحكم العربية في العصر القديم (قبل الإسلام) والوسيط (بعد الإسلام) ثم تطورت البحوث .
والاستنتاجات حول الموضوع فكان أن وضعت مؤلفاً بعنوان : تحليل نظام الخلافة العربي / الإسلامي . وهذه الدراسات والأبحاث بوصفها تتناول تاريخاً قديماً كان العمل فيه لا ينطوي على مخاطر لذلك كانت المصادر تردني إلى السجن بسهولة تقريباً وهي كتب غير ممنوعة في غالبيتها العامة باستثناء كتاب أبن تيمية في السياسة الشرعية وتفسير في ضلال القرآن للسيد قطب وقد استعرتهما من زملاء معنا وكذلك كان كتاب البرت حوراني ممنوعاً وكذلك كتاب تاريخ الحركات السرية في الإسلام د.محمد إسماعيل وفيما عدا ذلك كانت الكتب التاريخية مجازة وتباع في الأسواق العراقية على إنني حاولت العمل في بحث أحاول فيه دراسة جذور الفكر اليساري في الإسلام ولكنني سرعان ما أدركت أن البحث في هذا الموضوع ينطوي على مخاطر حيازة كتب ممنوعة حديثة وقديمة بالإضافة إلى أن مسألة اليسار المرعبة للجميع ولكنني مع ذلك بلورت تلك الأفكار في مؤلف يحمل عنوان(مباحث في الفكر العربي الإسلامي) درست فيه أفكار ثلاثة علماء: الماوردي أبن خلدون أبن تيمية وثلاث حركات: المعتزلة القرامطة والزنج . وبنتيجة هذه الدراسات وبعمل كان يستغرق مني وقتي بأجمعه (كنت اعمل بين 12-10 ساعة يومياً) كان اهتمامي بالفكر السياسي قد بلغ وتوصل إلى تبلورات جديدة وأفكار كثيرة قادت إلى أحداث مقارنات مع الفكر السياسي الذي نقراه في الجامعات القديم منه والحديث (الإغريقي ـ الروماني ـ المسيحي/عصر النهضة ـ الليبرالي ـ عصر التنوير وتطوراته) قاد ذلك إلى وضع منهج لدراسة في الفكر السياسي المقارن : الفكر السياسي الرافديني/ الإغريقي ـ العربي الإسلامي / المسيحي الليبرالي والعمل يحمل عنوان : الاستهلال والاستكمال وقد عملت فيه زمناً طويلاً كلفني جهداً كبيراً إذ عملت فيه ما يزيد على السنتين والنصف . وباستثناء هذه الأعمال ذات الطابع الفكري والسياسي كانت هناك أعمال غير مثيرة للسلطات : مثل الدروس الأساسية في اللغة الألمانية وكذلك: تعلموا الألمانية وهذان كتابان في تعلم اللغة من خلال خبرتي في تدريس اللغة الألمانية، وكراس 60 صفحة تقريباً : تحليل عمل البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق 1959 – 1958 وكراس عن العولمة /الإمبريالية الجديدة . وإني أعتقد أن العولمة تلطيف لواقع الإمبريالية الجديدة بالإضافة إلى أعمال أدبية فقد كتبت خمس مسرحيات كانت تنطوي على مغزى نقدي لذلك كنت أخفيها بدقة وأسربها إلى خارج السجن فور الانتهاء منها وهي : تغريد بلابل متعبة أيها السادة يرجى الانتباه إفادة شاهد عيان مختصر الحكاية حكاية عطب بسيط وهناك أشعار لبعضها دلالات سياسية وإن كنت لا أكتب الشعر كثيراً ولكن تلك الأبيات تمثل وتعكس الموقف الوجداني والسياسي ولم أفكر يوماً بنشرها . إذن كانت مساحة الكتابة واسعة وفي الواقع أن دراستنا الجامعية في ألمانيا ساهمت بالطبع في حيازة الأسس المعرفية والمنهجية في التعليم وكتابة البحوث. فهناك قواعد في القراءة المفيدة وكذلك قواعد في الكتابة وهي تمثل الأسس الموضوعية للجهد البحثي ثم يليه أو يأتلف معه الجهد الذاتي المتمثل في القراءة المكثفة الموجهة والمركزة وامتلاك الرؤية العميقة والاختصاص في موضوعة البحث . وإلى جانب الكتابة كانت هناك أمكانية متاحة في عمل الترجمة التي كانت بالنسبة لي تمثل مكاسب عديدة في آن واحد . فالترجمة كانت تضعني على تماس مباشر مع اللغة الألمانية التي لم أكن أريد أن أخسرها، فهي بالنسبة لي عمل لا يستطيع أن يفصلني منه أحد يا إلهي كم أنا بحاجة إلى عمل لا يفصلني منه أحد يا إلهي كم أنا بحاجة إلى عمل لا يفصلني منه أحد !... الفصل .. يا لها من كلمة مرعبة ولكنها كانت في حياتي عادية جداً وباعث آخر مهم فقد كانت معظم الكتب التي ترجمتها مهمة للقراء العرب . وكنت قبل السجن قد ترجمت مقالات عديدة بعضها مهم للغاية ولكني ترجمت كتاباً رائعاً عن أحداث الحرب الأهلية الأسبانية وأنا أعلم كم هي كبيرة حاجة المثقفين العرب إليه وبعد سنة من وجودي في السجن طلب مني ترجمة كتاب ميكانيكا وقيادة السيارات والإشارات الدولية في جزأين ثم وقع بين يدي مصادفة رواية لكاتب أقدره كثيراً وهو الكاتب التقدمي الأمريكي جاك لندن مؤلف رواية العقب الحديدية وقد أهداه لي الأخ نزار القاضي الذي غادر السجن وهي رواية (عصيان على السفينة الزينورا) ولكني بعد ذلك ولمدة تجاوزت السنة عملت بصورة مرهقة جداً بكتاب هو من أروع الكتب في تاريخ العرب لمستشرقين ألمان بأربعة أجزاء وكان عملاً مرهقاً لبصري وصحتي عامة ولكنه عمل يستحق التعب وبعد ذلك ترجمت كتاباً عن حضارة الأزتيك والمايا والأولميك في المكسيك (وقد ترجم الأخ الدكتور عبد الكريم هاني فيما بعد عملاً مهماً عن حضارة المكسيك) ثم ترجمت رواية مهمة من أدب المقاومة للكاتب الألماني كلاوس مان بعنوان (هروب إلى الشمال ) وكان هدية من الأخ الدكتور رشدي الرشدي المختص بدراسات أدب المقاومة ورواية أخرى من أدب المقاومة لكاتب ألماني مشهور وهو هارالد هاوزر بعنوان سفير بلا تفويض . ثم وقعت بيدي صفة مجموعة كتب بالألمانية ترجمت منها روايتين لكاتب ألماني مشهور هاينز كونزاليك وهذا الكاتب غزير الإنتاج ويكتب بأسلوب يشبه أسلوب أحسان عبد القدوس ويثير أعجاب قطاعات واسعة من القراء والروايتان : طريق إلى الجحيم تدور أحداثها حول ثورة عمالية في البرازيل والأخرى : مسرح الجبهة تدور أحداثها في الحرب العالمية الثانية في جبهات الاتحاد السوفياتي والنرويج وهي ذات طابع إنساني/ مقاومة ورواية ثالثة لكونزاليك وجدانية وغير مهمة سياسياً . ولكن وقبيل خروجي من السجن بأشهر ترجمت مقدمة لترجمة القرآن الكريم للأستاذة الألمانية المعروفة آنا ماريا زيشل (45) صفحة وعمل آخر جميل هو دفتر تخطيطات مايكلو أنجلو للأستاذ الألماني ديتر شمت وهو (كما أعتقد) لا غنى لطلبة معاهد وأكاديميات الفنون الجميلة ودراسات تاريخ الفن ..
لاحظ أن جميع هذه الترجمات هي غير خطيرة (على صعيد الإدارة والأمن) ولكنها بالنسبة لي فأن أي مساهمة مهما كانت صغيرة في التأثير على مستوى وعي الناس وثقافتهم مكسب كبير لقد عملت لمدة ستة عشر عاما متواصلة مع القراءة والكتابة والترجمة دون توقف وكنت أحياناً أعمل لساعات طويلة وليس من مواد مسـاعدة سوى قامـوس شريجلة وموسوعة دودن الألمانية Duden، وكان لهذا الكتابان قيمة لا تقدر بثمن وكذلك كتاب المنجد وأريد بذلك القول أن بإمكان المرء أن يعمل حتى في ظروف تقارب المستحيل وكانت الإدارة تمنع الكتب وتصادرها ولكنها كانت تعيد الكتب غير الممنوعة، بما في ذلك كتباً صادرة عن دار التقدم في موسكو(وهي دار نشر غير مرغوبة) وبذلك كان بإمكان النزيل أن يشغل وقته وما أكثر وقته إن شاء استغلاله استغلالا حسناً في ظروف ومعطيات معقولة . في ظل نظام منع الراديو عن النزلاء (رغم وجود عدد لا بأس به من أجهزة الراديو لدى السجناء بشكل سري وكان اكتشافه يعرضهم للعقاب أو المصادرة) لذلك كان وجود التلفزيون مهماً بل حاسماً في حياة النزلاء ولا يمكن تصور الآثار السلبية لغيابه وإن كان بعض الأخوان من النزلاء لا يقدرون هذه المسألة حق قدرها فالتلفاز كان الجهاز المدهش الوحيد الذي نستطيع عبره أن نشاهد الطبيعة والماء والبحار والأشجار والحيوان والأرض والعلوم والألوان الأخبار السياسية والثقافية والعلمية والفنية وموسيقى وأفلام نحن الذين لا تمتد أبصارنا إلا بضعة أمتار فقط مقطوعين الصلات مع العالم الخارجي بكل ما فيه إلا عبر هذا الجهاز وبواسطته نطلع على الأخبار ثم على الصور والأفلام السينمائية وبعضها رائع وجميل ومفيد وفعاليات رياضية . فالتلفاز كان شيئاً مهماً للغاية وبدونه لم يكن لدى النزيل إلا الفراغ التام الذي تكمن فيه جوانب سيئة مدمرة للشخصية وإنني أعتقد وإن كنت لست من مدمني مشاهدة التلفاز بسبب انغماسي التام في القراءة والكتابة إلا أن التلفاز يتيح لك مشاهدة ومتابعة أحداث مهمة ويجعلك على صلة بالأحداث العالمية وكنت لا أفوت مشاهدة نشرة الأخبار والمتابعات الدولية والثقافية، لذلك كنت أسعى بكل قواي أن لايحرم النزلاء من هذا المصدر الثقافي الذي يدونه يستحيل حياة السجن إلى فراغ هائل ومطحنة رهيبة لعقل الإنسان كانت إدارة السجن تسمح بوجود تلفزيون كبير الحجم يوضع للجميع في الممر وكان النزلاء يجمعون التبرعات لشراء التلفاز وبالإضافة لذلك كانت تسمح (بسهولة أو بصعوبة وغالباً عن طريق المافيا) بإدخال أجهزة تلفزيون خاصة يضعها النزيل في غرفته كما شاع في الآونة الأخيرة تلفزيونات صينية صغيرة الحجم زهيدة الثمن لا يتجاوز ثمنها 40,000 دينار أو أقل20)) دولار كانت المافيا وقياداتها الجبارة تتولى إدخال هذه الأشياء (ثلاجة ـ مجمدة ـ مكيفة هواء) مقابل (أتعاب) معقولة وهكذا كان التلفاز من الفقرات المهمة في حياة النزيل . كان النزلاء يحاولون تداول العلم والثقافة فيما بينهم بوسائل مختلفة وكنت أجد لدى العديد منهم رغبة في التعلم وعند آخرين منهم الفكرة عن نقل بسيط للثقافة إن التعلم والثقافة هي عملية تطول سنوات كثيرة جداً ربما تستغرق العمر كله. إن الإنسان لا يقرأ لكي يقال عنه أنه مثقف بل لكي يجيب على أسئلة العصر المعقدة وبسببها أصبحت الثقافة معقدة أيضاً. والمرء يقرأ لكي يستطيع أن يتنبأ ما يمكن أن يحدث سياسياً/ اقتصادياً/ ثقافياً وتشعبت الاتجاهات وتعددت وتشعبت سبل ووسائل التعليم والثقافة ولكنني كنت أقابل كل رغبة في التعلم بإيجابية قدر الإمكان فطموحات البعض العلمية تتجاوز قدراتهم ثم أني كنت أتجنب الخوض في القضايا السياسية الحساسة وقد علمت أن أحدهم قد أبلغ الإدارة بأني كنت أوجه هذه الجهة أو تلك وقد كتبت عني تقارير كثيرة جداً ولحسن الحظ أنها كانت متناقضة جداً فقد كتب عني أنني من البعث اليسار وشيوعي ولكن لحسن الحظ، التناقض أبطل مفعولها بل وحتى كتبوا عني بأنني الموجه لتيار السيد الصدر وفي الواقع أن المنتمين إلى هذا التيار كانوا يتجهون للقراءة والثقافة والعلم أكثر من غيرهم من السجناء ومن هنا كانت علاقتي بهم أخوية وودية .
ولما كانت المحاضرات ممنوعة بالطبع إذ أن التجمعات ممنوعة وكان للإدارة عيونها وآذانها بين النزلاء لذلك فالتجمعات خطرة جداً ولكن ذلك لم يكن ليمنع أن يجلس اثنان أو ثلاثة في مكان قصي من الساحة في أوقات مناسبة ليتحدثوا بعفوية أو شبه عفوية في موضوعات ذات طابع سياسي/ ثقافي مهم وأساساً لم يكن هناك الكثير من المؤهلين(اختصاصاً) لخوض موضوعات كبيرة وبجدية وأحاطته بما يستحقه كمحاضرة أو كندوة ومن القليل النادر الذي حدث جلسة أو جلستين أو ثلاثة شبه عفوية في مناقشة لكتاب الرأسمالية الجديدة د. فؤاد مرسي وهذا الكتاب وجد في الأسواق العراقية في أواخر الثمانينات وطبع في الكويت وأدخلته إلى السجن وطالعه بعض الأصدقاء وجرت مناقشة لهذا الكتاب الممتاز الذي كانت معطياته وبياناته تطرح استنتاجا مفاده أن الأقطاب الرأسمالية في حركة شديدة وإن شدة التمركز في الولايات المتحدة تطرح احتمالات استقطاب جديدة . كما جرت في مناسبات أخرى مناقشة موقف الطاقة/النفط وحركة الأسواق وتقلبات الأسعار وربما في مناسبة أو أخرى حول موضوعات مماثلة وكانت هذه المناقشات لم تكن تدور حول موضوعات خطيرة (برأي السلطات طبعاً) ولكن مجرد جلوس ثلاثة أو أربعة أشخاص يثير اجتماعهم مغزى غير مقبول ويتبعه على الأغلب إجراء ما . كنت أحدث الأخوة النزلاء بمنطق العارف بل الخبير بالمشكلة : أفترض أنك سقطت من حاجز سفينة مبحرة في وسط المحيط الأطلسي... فمواصلة السباحة حتى البر مستحيلة نظرياً فأمامك بضعة الآف كيلومترات وورائك بضعة الآف كيلومترات ولكن من المستحيل أن تسدل ذراعيك وأن تتعمد إغراق نفسك ! أسبح ... أسبح حتى تتعب وعندما تتعب أسبح... لا أعرف ماذا سيحصل ولكني أعرف إن عليك أن لا تستسلم ربما أنك ستجد قطعة تساعدك على الطوفان أو ربما ستمر سفينة لتلتقطك ولكن ليس عليك أن تستسلم ! وكان تخصصي في العلوم السياسية والتاريخ يغري الكثيرين للاقتراب مني وطرح أسئلة سياسية ولكني وإن كنت أرحب بتطوير الوعي السياسي للأخوة النزلاء وكنت أفعل ذلك طالما أن الأمر لا يتناول موضوعات حساسة ولكني كنت أفضل العمل في موضوعات مفيدة ولكنها غير خطرة تعليم اللغة مثلاً فهي مفيدة للغاية ولا تنطوي على مخاطر مفضلاً الطالب الجاد المصمم ذو الإرادة القوية . وقد درست حوالي 150 نزيلاً اللغة الألمانية كان 30 – 25 منهم بمستوى طيب جداً بعضهم أتقن اللغة قراءة وكتابة ولكن المشكلة كانت في المحادثة حيث لم تكن هناك أي أمكانية (تقريباً) على الحديث باللغة الألمانية لكني علمت فيما بعد أن عدداً من النزلاء الذين غادروا السجن قبلنا استفادوا حقاً من هذه الدراسة استفادة كبرى وكان صديق عزيز وهو المهندس فؤاد توفيق يدرس اللغة الفرنسية كما كان الأخ المهندس السيد حامد يدرس اللغة الإنكليزية والأخ يشار عمر اللغة التركية . كانت هناك أمكانية ممتازة لتعلم اللغة ولكن بدرجات من الجودة والحزم متفاوتة بين الطلاب والمدرسين كان هناك من يبدأ ولكنه يترك الدراسة بعد فترة وجيزة الأمر يستلزم الدراسة والتعب والاجتهاد ولم يكن الجميع على هذا القدر من العزم . الثقافة كانت ممكنة والدراسة كانت ممكنة كذلك وكذلك التعليم كنت أحث الأخوة النزلاء على الدراسة والقراءة لأنني متأكد أن لا شيء يمكن إيقاف الهدم من الخارج إلا بناء من الداخل وأنه صراع بين الفرد والقوى الخارجية أي كانت مسمياتها ... القوى الغاشمة المسلطة على الإنسان كثيرة وعلى حريته ولكن على فكره أيضا وكذلك وضعه الاقتصادي ولا شيء يطلق الإنسان حراً من قيوده السخيفة فيعلو ويسمو عليها يترفع عن التعصب والتطرف فيدرك أن قيمة كل شيء إنما يكمن في فائدته لأكبر عدد من الناس وعندما يتعب الإنسان لكي يصبح راقياً يدرك كم هو صعب الارتقاء إلى المستوى الرفيع لذلك يتخلى عن التعصب لأن التعصب يحشر الإنسان في زاوية يأبى الخروج منها ويدرك أيضاً أن التعصب حتى للحق إنما هو خطأ .. فإنك وصلت للحق بمشقة وتعب وقوة قد لا يملكها غيرك . خرجت من السجن بحصيلة كبيرة جداً من الأعمال مؤلفات ومترجمات ورغم أن عاشق للقراءة إلا أن السجن أحالتني لمدمن قراءة وكتابة وما زلت أمارسها حتى اليوم بشغف لا ينقطع وأضاف الكومبيوتر والانترنيت للأمر متعة وسهولة وامكانات لا حدود لها وما زلت حتى يومنا أعمل بما لا يقل عن عشرة ساعات يومياً ربما زادتها ظروف الكورونا .
إرسال تعليق