حين كان الفن متعة ورسالة

مشاهدات


فاروق جويدة


من أجمل الأشياء فى الحياة أن تقدم للناس بسمة إنها الأصعب وما أسهل أن تقدم لهم وجبة شهية من النكد والإحباط .. أن تترك الإنسان ينام حزينا تطارده الأشباح وتعبث به المخاوف فهذا أبسط شىء.. أما أن تتركه ينام هادئا مستسلما لقضاء الله فهذه متعة أخرى فى حياتنا.. فن جميل أسعدنا وعشنا معه أجمل وأحلى ذكرياتنا ..
 

من ينسى نجيب الريحانى هذه الكتلة من المشاعر التى كانت تحلق بالقلوب إلى ابعد نقطة فى هذا الكون فى مشهد لا ينسى.. مع أغنيات ليلى مراد وصوت الريحانى ولحن عبدالوهاب تسافر إلى عالم من التناقض بين رقة وإحساس ليلى مراد وخشونة صوت الريحانى مغامرة فنية بديعة «علشانك انت أنكوى بالنار» وفى نهاية الفيلم يستسلم الحلم المهزوم الشاشة على صوت ودموع الريحانى «ما ليش أمل فى الدنيا دى غير إنى أشوفك متهنى».. رغم أن الملايين شاهدوا الريحانى مئات المرات فما زال حتى الآن يضحكنا ويبكينا وعبدالوهاب يشدو من بعيد«الحبيب المجهول»..
 

كان الفن فى بساطته وصدقه ومواهبه الفذة يجعل الحياة أكثر جمالا وصفاء.. فى مشوار إسماعيل ياسين ضحكة صافية وابتسامة رقيقة يحبها الصغار والكبار.. إن سلسلة إسماعيل ياسين فى الجيش والطيران والبحرية أعمال غاية فى الصدق والوطنية تسعد أطفالنا وتغرس فيهم حب هذا الوطن والانتماء إليه.. كان إسماعيل ياسين مدرسة مستقلة فى الفن التلقائى، لم يقلد أحدا ولم يقلده احد ووهب حياته للفن ومات مديونا وفقيرا.. كان إسماعيل ياسين حالة فنية فريدة كان يشبه كثيرا شارلى شابلن فى حركته وأسلوبه وإن كان أكثر خصوصية فى تلقائية الأداء والوصول إلى قلوب الناس.. مازالت أفلام إسماعيل ياسين مصدر سعادة للمشاهدين..
 

فى محطة أخرى أقف عند المعلم فؤاد المهندس وهنا تشع ثقافة الفنان فى اختياراته وموضوعاته.. فى رحلته مع شويكار قدم مجموعة من أجمل إبداعاته وإن ظهرت رسالة الفن وموقف الفنان فى «سك على بناتك»، كان عبدالوهاب يصر أن ينام مبتسما وكان يشاهد احدى مسرحيات فؤاد المهندس قبل أن ينام.. التقيت فؤاد المهندس فى المملكة العربية السعودية وأدركت يومها أن ثقافة الفنان تمنحه بريقا ووهجا خاصا.. كان المهندس فناناً من طراز رفيع..
 

ولا يمكن أن نتجاهل فى مدارس الإبداع الراقى مشوار عبدالمنعم مدبولى وهو أستاذ حقيقى فى الكوميديا الراقية وقدم للفن المصرى أعمالا لا تنسى على خشبة المسرح وشاشات التليفزيون كما قدم فى واحدة من أجمل مسرحياته «هاللو شلبى» عددا من النجوم : سعيد صالح ومحمد صبحى واحمد زكى وقد تفرد كل منهم وأصبح صاحب مدرسة واختلفوا جميعا ونجحوا فى تقديم أعمال متفردة..
 

نأتى بعد ذلك إلى الزعيم عادل إمام وهو بكل المقاييس رائد وصاحب مدرسة كانت ومازالت الأكثر وجودا فى الشارع المصرى والعربى.. كان عادل إمام أكثر فنان استطاع أن يصل إلى مساحات عريضة من البشر فى مختلفى الثقافات والأذواق.. وخرج من إطار النخبة أو الصفوة ليكون صوتا للشارع  من خلال أفلامه ومسرحياته وتقدم الصفوف فى وقت مبكر وظل محافظا على المقدمة فلم يسبقه أحد.. وهنا كانت سلسلة مسرحياته التى عرضت سنوات«شاهد ما شفش حاجة» «والزعيم»، بجانب عشرات الأفلام التى اقتربت كثيرا من هموم الناس.. وفى أحيان كثيرة قدم أعمالا ضد السلطات وإن بدت فى حالة انسجام واتفاق معها.. يذكرنى ذكاء عادل إمام بالفنان الراحل عبدالحليم حافظ الذى حافظ على شعرة معاوية مع سلطة القرار.. وإن لم يفصح عادل أمام عن الكثير من مواقفه وقناعاته.. كنا من سنوات ضيوفا فى معرض الكتاب بالشارقة وشهدت يومها استقبال الناس لعادل إمام وكأنه زعيم حقيقى وهو حقا زعيم بفنه..
 

مازالت عندى بعض الخواطر أتوقف عندها مازلت اعتقد أن محمد صبحى لم يأخذ حقه فى موكب الصدارة والغريب فى ذلك أن ثقافة محمد صبحى قد جنت عليه.. إنه فنان صاحب موقف وفكر ورؤى ربما ظهرت هذه الجوانب فى بعض أعماله مثل «على بك مظهر» و«رحلة المليون» و«يوميات ونيس» ولكن جدية أعماله وثقافته لم تعد تناسب مناخ السطحية والفوضى والانفلات..
 

 

أتوقف عند نجم انطلق يوما فى سماء الفن والإبداع الحقيقى يسمى سعيد صالح هذا فنان لم ندرك قيمته وحجم موهبته وإمكاناته وتركناه يتخبط بين تجارب إنسانية مختلفة بين السجون والإهمال والتهميش.. ولكنه بكل المقاييس كان فنانا حقيقيا ولو أتيحت أمامه فرص الانطلاق لكان له شأن آخر، وفى بداياته مع عبدالمنعم مدبولى فى دور المؤلف القادم من الريف قدم دورا مبهرا، كان فنانا كبيرا بكل المقاييس..
 

 

فى آخر المطاف أتوقف عند موهبة من المواهب الكبرى فى تاريخ الفن المصرى وهو عبدالفتاح القصرى، كان كتلة من البهجة والإحساس والتلقائية.. وكان قادرا على أن يصنع ابتسامة عريضة على وجوه الناس ورغم انه لم يكن بطلا فى فيلم من الأفلام.. فإنه كان قادرا على أن يضيء قلوبا كثيرة ومازال حتى الآن يجمعنا حول فنه الجميل.. لقد مات القصرى فقيرا ولم يجد نفقات علاجه، ولعل هذا يطرح أمامنا سؤالا فى نهاية هذه الرحلة..
 

كان الفن فى يوم من الأيام رسالة لإسعاد الناس، كيف تحول إلى تجارة فرضت علينا هذه النماذج الرديئة فى الحوار والإسفاف والفوضى؟! وكيف أصبح حلم الفنان أن يجمع الأموال ويتسول من اجل المزيد منها؟!.. هل هو خلل فى المواهب أم فى السلوك أم الأذواق أم فساد فى سوق الفن وأحلام الفنانين التى أهملت رسالة الفن وذهبت إلى أسواق الفوضى والارتزاق؟!.. الفن المصرى بتعدد مدارسه ونجومه ومواهبه كان دروسا فى الجمال والإبداع والقيمة وكان المال آخر طموحات الفنان..

 

الخلاصة عندى أن هناك رموزاً أسعدتنا وحلقنا معها فى سماء الفن الجميل وما زلنا حتى الآن نجد فيها ومعها مشاعر من الإبداع الصادق.. ومازالت الأجيال الجديدة تجد فيها القدوة والنموذج فى الأخلاق والسلوك والمسئولية.. منذ اجتاحت لعنة المال حياة الناس وأحلامهم سقط الفن الجميل الهادف أمام مواكب الفوضى وغياب المسئولية.. كان لدينا منجم للفن الحقيقى والإبداع الجميل، ولكن ـ للأسف الشديد ـ لم نحافظ على اغلى ما كان بين أيدينا من مواكب الفن والإبداع..
 

 لن انسى وسط هذه الكوكبة المتألق سمير غانم وعبدالمنعم إبراهيم ويونس شلبى وزينات صدقى وعبدالسلام النابلسى وسناء يونس ومحمد عوض ولن أتوقف كثيرا عند أحمد زكى فقد تجاوز حدود الكوميديا وأصبح فنانا شاملا ونجما سينمائيا متفردا فى أدواره وأدائه وجلس على قمة السينما المصرية بجدارة واستحقاق.. 

 

هذه وقفة مع زمن كان من حظ جيلنا أننا عشناه وترك لنا رصيدا من الذكريات لا ينسى ولا يضيع..


المصدر : الاهرام

تعليقات

أحدث أقدم