الساعة السابعة والنصف صباحًا بتوقيت الحبيبة بغداد

مشاهدات



نيسان سليم رأفت

 

على عكس الطبيعي أسحب الستارة دون ترتيب من على نافذتي لأخفف حدة ضوء الشمس قد قضت الليل بطوله مفتوحة منتعشة بنسائم تشرين.

أنتعل بقدمي البان توف فردة واحدة والثانية هي من تركض خلفي لسرعتي على عتبات السلم. أضع إبريق الشاي على نار هادئة وأسلق ثلاث بيضات له وركوتي أعد فيها قهوتي المرة. ربع ساعة ويكتمل فطوره الناشف حتى أتذكر أنني لم أغسل وجهي. وبحركة سريعة أعقص شعري للخلف وأمسكه بقلم الرصاص. لم أحتج يوما لمشبك غيره، حتى كانت صديقتي نضال تستغرب كيف أتمكن من عقصه بهذه الطريقة.

 أضع له فطوره وأقوم بتشغيل أغنية فيروز من جهاز هاتفي. دائما أحب الاستماع لأغنية فيروز “بحبك يا لبنان”، كنت أدندن بها وأدلل أسمي وأقول “أحبك يانيسان ياوطني”، وأضحك أضحك كيف غيرت أسم الأغنية، لربما يقاضيني يوما الرحباني، لكنها فعلا مع أسمي حلوة. نعم فوطني أنا في داخل روحي التي أرى بها العالم بكل مافيه فيلم طويل فيه قطار تعطل في محطة مهملة وشوارع أكتسحت أرصفته دبابة محترقة أصبحت ملعبا للأطفال وصيفا حارا أحرقت الشمس خضرة أشجاره ولون السماء كالدخان الأبيض ماتت زرقتها من كثرة الرصاص ودجلة فقد عذوبته وبقي حيًا في قصائد السياب…

تغير الزمان وتغير المكان وتغيرت معاني الحب ويبست اغصان الآس على أسيجة الجيران واختفت رائحة الرازقي والشبوي من أزقة البيوت. والاغاني فقدت معانيها والموسيقى أصبحت صاخبة والمطر كف عن الهطول في موعد العشاق ولم يعد بإمكان الصحف ان تحمي رؤوس المارة من زخات المطر لان العالم شن حروبه على الورق وحكم بالموت على الجرائد والمجلات التي تكتب عن الجمال والفن، حتى أنه قتل أيقونتي سعاد حسني لأنها غنت للربيع. والموضة لم تعد تعجبني بعد أن ترهلت أناقة النساء وبقيت أنا ألبس تنورتي القصيرة ولم اترك ربطة عنقي الملونة. هو أيضا ظل يقاوم كل التغيرات يكتب لها عن الذكريات في موقف الباص وكيف أنه سرق منها قبلة خلف كشك الجامعة، كانت لا تمل من انتظاره ولا تأبه لعيون الجنود الملتحقين للجبهات وهم يحملون أمتعتهم على ظهورهم، كانت سخية لم تبخل في منحهم الابتسامة وهم يستقلون الحافلة بالضحك والمزاح وكأنهم ذاهبون لحفلة عرس٠ تلوِّح بيدها وصوتها يزاحم الضجيج متأملة بأنه سيعاصر معها كل أوجاع الحروب والحصار وأن الله لن يبخل عليها بأن يأتي لها بالأخبار عنه. كانت تدعو له مع كل بيان في هجوم المعارك حتى انتهت الحرب

وعاد… حاملا معه جراحا عميقة وصورا لم يدع أحد ليراها. وكبرت به الأيام والعمر وقف على بياض شعره يعيد معه الذكريات.

 وتنهض الحرب من جديد. ولم يلتقها. كانت قد تزوجت وكبرت وأصبحت أمًا ولها أولاد وما زالت تحتفظ بروايته التي أهداها إليها يومًا عن مدن الملح لعبد الرحمن منيف قد عاشت معه كل أحداثها.

حتى اللحظة هي تكتب عنه وهو يقرأ  لها، ولم يلتقها.

تلك هي ساعات الصباح.

 تعيش الذكريات في سعادة مختصرة.

ويتكرر الصبح مع فيروز والساعة السابعة والنصف بتوقيت بغداد الحبيبة

تعليقات

أحدث أقدم