قبل الحرب يجب إدراك موت آلاف الأبريا

مشاهدات




داود الفرحان


تحملت وزارتا الدفاع والخارجية الأميركيتان مسؤولية الإدارة المشتركة للعراق من قصور رئاسة الجمهورية إلى مراكز الحدود البرية مع إيران وتركيا وسوريا والأردن والسعودية والكويت، ابتداء من 9 أبريل (نيسان) 2003 إلى أن جاءت حكومة إياد علاوي في 28 يونيو (حزيران) 2004 . ويخطئ من يقول إن مجلس الحكم الذي تشكل في بداية الاحتلال من أقطاب المعارضة العراقية السابقة في الخارج كان يمثل رئاسة الجمهورية فقد كان تركيبة  «مسرحية» لإضفاء صفة « الدولة » على العراق المحتل في محاولة فضائحية لستر حقيقة الحرب العدوانية الأميركية على العراق . 


يكفي أن أقول إنني غادرت بغداد إلى القاهرة بعد أسابيع من الاحتلال لتوضيح حقيقة ما حدث من احتلال ودمار وقتل ونهب أمام اتحاد الصحافيين العرب الذي كنت أحد أمنائه المساعدين ولم يكن أمامي إلا منفذ طريبيل البري مع الأردن ومعي موافقة أمنية مسبقة من وزير الداخلية الأردني وكانت الدبابات الأميركية  تشرف على ذلك المنفذ وسط الصحراء وتتأكد من هويات المسافرين وفي مرحلة لاحقة  في العام نفسه أصدرت السفارة عبر مكتب بول بريمر الحاكم المدني الأميركي الأعلى في العراق وثيقة سفر دولية للعراقيين الذين يريدون السفر إلى الخارج تحمل صورهم وأختام سلطة الاحتلال . تعودت أكثرية الدول على إرسال دبلوماسييها الجدد إلى دول هادئة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق لتعلم لغاتها والتدرب العملي على العلاقات الدبلوماسية وقد اخترت مثالا السفير الأميركي ريان كروكر الذي تولى شؤون السفارة من مارس (آذار) 2007 إلى مارس 2009 خلفا للسفير الأفغاني الأصل زلماي خليل زاد  وكان قد شغل في عام 2005 منصب المدير الأول للحكم في سلطة التحالف الدولي المؤقت عقب الاحتلال يعد كروكر رجلا محظوظا لأنه خدم في 11 دولة متتالية بداية من قنصلية  بلاده في كرمنشاه عام 1972 في إيران خلال الحكم الشاهنشاهي ثم عمل ممثلا للإدارة الأميركية في قطر عام 1974 وعاد إلى واشنطن عام 1976 لتلقي دروس مكثفة في اللغة العربية وكان قد درس قبل إيفاده إلى إيران اللغة الفارسية . 


تأمل هنا كيف يؤهلون دبلوماسييهم خصوصا تعليمهم لغات الدول التي ينقلون إليها لتسهيل مهماتهم وعلاقاتهم العامة وقد استفاد كروكر من عمله في تونس عام 1978 للتعمق في اللغة العربية  وعين بعد ذلك رئيسا للبرنامج الاقتصادي والتجاري في بغداد وتوجه لاحقا إلى بيروت رئيسا للشعبة السياسية الأميركية من عام 1981 إلى 1984 ثم أصبح نائبا لمدير مكتب الشؤون العربية - الإسرائيلية في وزارة الخارجية في عام 1985 وبعدها مستشارا في السفارة الأميركية في القاهرة في عام 1990 ثم رفع لدرجة سفير لدى لبنان وفي عام 1994 تسلم السفارة الأميركية في الكويت وظل فيها إلى عام 1998 حين نقل إلى دمشق سفيرا حتى عام 2001 وتسلم بعد ذلك منصب نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى حتى عام 2003  وخدم بعد ذلك في أفغانستان ثم باكستان إلى أن أعيد إلى بغداد سفيرا في عام 2007 .  قلت عن هذا الرجل إنه كان محظوظا في الوصول إلى أعلى المناصب الدبلوماسية الأميركية في 11 دولة أجنبية بينها 7 دول عربية  وأكثر من ذلك أن ريان كروكر كان محظوظا بشكل يرشحه  لدخول موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية لأنه كان أحد الناجين القلائل في تفجير السفارة الأميركية في بيروت عام 1983 ثم في تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وفي حرب أفغانستان 2002 وفي حرب العراق 2003 كان دائما في الكواليس رغم أنه خرج مع زوجته من تحت أنقاض السفارة الأميركية في بيروت في عام 1983 ثم نجا من قصف منزله بالمنطقة الخضراء في بغداد بقذائف الهاون في عام 2008 إنه جيمس بوند حقيقي !


كانت المهمة الأخيرة  لكروكر التي كلفته بها وزارة الخارجية في عام 2007 هي الذهاب إلى بغداد كانت المقاومة التي بدأت عملياتها في الأسبوع الأول للاحتلال قد أصبحت «هائلة» على حد تعبير كروكر وأصبحت لدى المقاومة قناعة بأنها على وشك طرد أميركا من العراق ويقر كروكر بأن القوات الأميركية كانت تفتقر إلى الصبر الاستراتيجي وإلى وحدة القيادة وهو يقول إن أعداء أميركا في العراق استغلوا «غطرستنا» لإلحاق مزيد من الخسائر في القوات الأميركية ودول التحالف الدولي . ومثلما اعترف السفير الأميركي الأسبق في بغداد بريمر بفشل السياسة الأميركية  في العراق وتضارب المواقف بين العسكريين والسياسيين الأميركيين وصراع السياسيين العراقيين الجدد على السلطة والنفوذ والمال، اعترف ريان كروكر، وهو السفير الأميركي الرابع في بغداد في ظل الاحتلال بعد كل من بول بريمر ونغروبونتي وزلماي خليل زاد، بأن العيب الأساسي لدى الأميركيين في العراق هو أن نفس كل منهم قصير وليس مثلما يفعل أبطال السينما الأميركية حين ينجحون خلال ساعات في قتل جميع الأعداء وإنقاذ أميركا من هجوم نووي أو كيماوي أو فضائي !


وقال كروكر حين كان سفيرا في مقال طويل نشرته مجلة «نيوزويك» إن قلة من القادة العسكريين الأميركيين كانوا يملكون بعد سقوط النظام العراقي السابق في أبريل (نيسان) 2003 صورة واضحة عن المشهد السياسي العراقي وضرب مثلا على ذلك أنه التقى أحد هؤلاء القادة العسكريين ولم يكن يبالي بأي شيء على الإطلاق ما عدا استخدام «علم الحركة العسكرية» بالطريقة الصحيحة : الانتشار والدفاع والتصويب وإطلاق النار . حاولت أن أشرح له كيف ستبدو أميركا للعراقيين إذا لم نجد سبيلا لمعالجة مختلف المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فكان جوابه مثل كثير من القادة العسكريين : «ليست هذه مهمتنا ما تقوله لي مثير للاهتمام لكن لا علاقة لي به » .


ويشير كروكر إلى عمليات النهب والسلب والحرق التي شهدها العراق في أسبوع الاحتلال الأميركي الأول والتي تمت تحت أنظار القوات الأميركية الغازية فيقول : «إن نهاية النظام السابق تمت ترجمتها على أنها نهاية النظام العام وسيادة الفوضى كأن بابا انفتح أمام المجرمين كي يمروا عبره  لقد سيطر اللصوص على الشوارع  فنهبوا المتاجر والمباني الحكومية وخربوا المتحف الوطني وأحرقوا المكتبة الوطنية حتى إنهم حطموا الشبكة الكهربائية للبلاد وباعوا معادن الأسلاك رأى العراقيون في الفوضى دليلا على أن الأميركيين لا يهتمون إطلاقا بأمورهم وأنهم غير قادرين على التحكم في مجرى الأحداث ولا يملكون خطة ولا الموارد الضرورية لضبط البلاد» . ويعترف كروكر بأنه لم تكن لدى الأميركيين خطة لحكم العراق أو على وجه الدقة خطة لليوم التالي واليوم التالي هو اليوم ما بعد صدام حسين ويتساءل : هل كانت لدينا خطة لتشكيل مجرد حكومة عراقية بلا سلطة ؟ ويجيب بالنفي لأن قوات الاحتلال لم تستطع تشكيل مجلس الحكم سيئ الصيت إلا بمساعدة الأمم المتحدة .


هذه التصريحات تدل على عمق التجارب التي مر بها هذا الدبلوماسي في دول أخرى عمل فيها مثل أفغانستان وباكستان ومع كل تلك الاعترافات الأولى من نوعها فإن كروكر لم يوجه أي انتقادات إلى الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن الذي قال في أول مايو (أيار) 2003 من على ظهر «إبراهام لينكولن» حاملة الطائرات الأميركية : «المهمة انتهت» . المهمة لم تنته يا سيد جورج بوش الابن تطلع إلى كل مدن العراق والميليشيات العميلة والاستيطان الإيراني والحكومات الفاسدة والاغتيالات والمعتقلات السرية وقل لنا ما المهمة التي انتهت بعد موت مئات الآلاف ؟ في مطلع الثمانينات من القرن الماضي اقترح روبرت فيشر أستاذ القانون بجامعة هارفارد أسلوبا جديدا لكنه مروع للطريقة التي يمكن أن تقرر بها الدول شن هجوم نووي فبدلا من الاحتفاظ بالشفرة السرية لتفعيل ترسانة الأسلحة النووية في حقيبة يحملها رؤساء الجمهورية يفضل أن توضع الشفرة الذرية في كبسولة تزرع بالقرب من قلب أحد المتبرعين على أن يرافق هذا المتبرع الرئيس أينما ذهب ويحمل معه سيفا ثقيلا وإذا وافق الرئيس على بدء الحرب فعليه أولا أن يقتل ذلك المتطوع وينتزع قلبه حتى يستخرج الشفرة السرية « لكي يرى الرئيس القتل بعينيه ويدرك حقيقة موت الأبرياء قبل أن يقدم على قتل الآلاف» .

 

تعليقات

أحدث أقدم