مشاهدات
الدكتور علي محمد الصلابي
أ ـ القضاء :
عمل الفرنسيون على إفراغ القضاء الإسلامي من صلاحياته فقد كان قبل الاحتلال مستقلاً بشكل معقول وكان الداي والباي يعين قضاة المدن وتعين القبائل قضاة الريف وكان المجلس الأعلى للقضاء يستعرض القضايا الصعبة في صورة استئناف . وأحكامه نافذة والحكم يكون بالتغريم أو الضرب أو القتل ولا يكون بالسجن إلا في الحالات القليلة وقد تطور القضاء في دولة الأمير عبد القادر الذي أولاه رعايته الخاصة . لقد عين الأمير قاضياً لكل خوجة يعاونه أربعة علماء متفقهين في الدين وكان لا يصدر الحكم بالموت إلا بحضور الخليفة شخصياً (أي نائب الأمير في الولاية) وهذا عناية بالروح البشرية .
في (1841م) بدأت المحاولات لدمج القضاء الفرنسي كقاضي الصلح والمحاكم الابتدائية والمحاكم الاستثنائية والمحاكم العسكرية ونزعت الجنايات من القضاء الإسلامي وصارت من صلاحيات المحاكم الفرنسية بل وصارت المحاكم الفرنسية الاستثنائية تملك حق النظر في الأحكام المدنية المتعلقة بالأحوال الشخصية . وحتى القانون الفرنسي لا يطبق بكامله على الجزائريين الذين تحكمهم قوانين استثنائية . فالجنرال بيجو يقول لوزير الحربية : إن حرب الجزائر تستلزم نوعاً من القضاء، يختلف عن المعمول به في أوربا .
ويعترف لوي ماسينيون فيقول : إن الواقع الذي يطبق في الجزائر هو أولاً اعتداء على الشريعة الإسلامية . وثانياً إجراءات تعسفية غير خاضعة حتى للقانون الفرنسي . وقال الحاكم العام «دوفيدون» يوم (22 مارس 1874م) إن العدالة تدخل في إطار السيادة وعلى القاضي المسلم الانحناء أمام القاضي الفرنسي وعلى كل واحد أن يفهم أننا الغالبون . واستمر الفرنسيون في تفريغ القضاء الإسلامي من صلاحياته وما إن حل آخر القرن التاسع عشر حتى لم تبق له سوى عملية تسجيل الزواج والطلاق، وهوت قيمة القاضي الإسلامي . وفي عام (1906م) منع القضاة والموثقون من كتابة العقود باللغة العربية وأجبرتهم على كتابتها باللغة الفرنسية لكن رجال القبائل الكبرى رفضوا كتابة أي قضية باللغة الفرنسية وأصروا على الكتابة باللغة العربية وهذا ما دفع بأحد الأوربيين المختصين في القانون إلى القول في عام (1913م) بأن الجزائر ككل يغلب عليها الطابع الإسلامي والبربر لا تربطهم أية صلة بفرنسا، وهم مثل العرب في هذا الشأن .
لقد استخدم الفرنسيون سلاح العدالة لقمع الجزائريين المسلمين وذلك عن طريق تطبيق القوانين الفرنسية عليهم وتشكيل مجالس القضاء من الفرنسيين فقط وإعطاء الشرعية القانونية للقضايا المسجلة عند الأوربيين الذين يتحكمون في ملفات العدالة وكسب أموال كبيرة من الجزائريين وإلغاء العمل بالقانون الجزائري والشريعة الإسلامية معناه حرمان الاف الجزائريين من كسب العيش والحياة بأمان في ظل شريعة الإسلام العادلة . وأدرك الجزائريون أن ضرب قضائهم الهدف منه ضرب الهوية الإسلامية الوطنية الجزائرية فراحوا يناضلون من أجل مقاومة سائر الإجراءات التي تمس هويتهم كالتجنس بالجنسية الفرنسية وقانون الأدنجينا والتفرنس والمطالبة بتعليم العربية والمساواة وكان من القضاة الذين نشطوا في هذا الميدان حميدو بن باديس ومحمد بن رحال.
ب ـ الإمامة :
وفي خط مواز للسيطرة على الخطاب الديني وتدمير الهوية الإسلامية أوجدت السلطات الاستعمارية طبقة من رجال الدين الرسميين الموظفين، تدفع لهم مرتباتهم بعد أن كانوا يتقاضونها من الأوقاف التي صادرت أملاكها السلطات وقد خضع هؤلاء خضوعاً مطلقاً للإدارة ففرضت عليهم منذ بداية الاحتلال أن يدعوا على منابر المساجد دعوات عامة مع التوقف عن الدعاء لخليفة المسلمين بل فرضت عليهم بعد الانتهاء من الصلاة وقراءة الفاتحة أن يشمل دعاء الإمام في الأعياد ما يلي :
بالتأييد والتمكين لحكومة فرنسا ومن لم يفعل يعتبر معادياً لفرنسا . يقول حمدان خوجة في كتابه المراة : واختفت منذ (1833م) جرأة العلماء لأنهم إن قالوا أو سكتوا عن خوف حكم عليهم بالنفي أو الحبس. واختفت من المساجد الرسمية حلقات الدروس لتكوين العلماء بل اختفت دروس الوعظ الفاعلة التي تردد آيات وأحاديث فيها الجهاد ومحاربة الكفر واستبدلت بدروس استبعد منها ما يفسر على أنه تعريض بالاستعمار بل حتى هذه الدروس المراقبة كانت تحتاج إلى رخصة يعين أئمة المساجد بالمدن مدير الشؤون الأهلية في الإدارة الاستعمارية وبالريف تعينهم المكاتب العربية في الجيش كان عدد المساجد سنة (1830م) (494،1) مسجداً ويبدو الإجحاف واضحاً ضد المسلمين في توزيع ميزانية الأديان على الديانات الثلاث كانت المخصصات لسنة (1887م)
كما يلي :
ـ الإسلام: (216340) فرنكاً.
ـ المسيحية: (986400) فرنك.
ـ اليهودية: (26600) فرنك.
علماً بأن عدد المسلمين ثلاثة ملايين نسمة وعدد المسيحيين (350000) نسمة وعدد اليهود (36000) نسمة.
كانت مداخيل أملاك الأوقاف تغطي نفقات المساجد والمدارس والتعليم بصورة عامة صادرها المستعمر وصار ينفق من هذه المداخيل على الأديان الثلاثة ووفق ما أورده ديبوت سنة (1897م) فقد قدر المدخول السنوي لأوقاف إقليم مدينة الجزائر وحده ما يقارب خمسة ملايين فرنك .
ألغى الفرنسيون منصب شيخ الإسلام وأبقوا على مناصب المُفتين بل ذهبوا بعيداً فحولوا الكثير من الأئمة والمُفتين إلى مخبرين في أجهزة المخابرات فأوغستين بيرك يقول : تحول بعض المُفتين إلى جواسيس للإدارة الفرنسية . ويقول لوي ماسينيون : لقد استعمرت الحكومة الفرنسية العقيدة الإسلامية في الجزائر منذ (1830م) كانوا يختارون المُفتين والأئمة في معظم الحالات من أشباه الأميين .
وهذا الوضع للمساجد جعل الناس ينفرون من أئمتها الموظفين ويلجؤون إلى المرابطين وشيوخهم ولم يعدم بعض الأئمة النزهاء الشجعان فالمُفتي مصطفى الكبابطي وقف سنة (1843م) في وجه الجنرال بيجو ووقف القاضي عبد العزيز سنة (1834م) في وجه فوارول. لكن كانوا أقلية .
إرسال تعليق