الاسطبل

مشاهدات

 


فائزة محمد علي فدعم
 


في اوائل القرن الماضي ورث والدي عن اهله داراً كبيرة جدا كانت مستأجرة من قبل دائرة الكمارك في محافظة ديالى . تقع في منطقة المنجرة خلف السراي . كانت جميلة وفيها باحة واسعة محاطة بالغرف والطابق الثاني مشابه للأول ومطابق له في تصميمه والفرق الوحيد بينهما هو محجر ( سور من الحديد ) وكل اهالي بعقوبة القدماء يعرفونها وهذه الاحداث كانت خلال فترة دخول الجنرال البريطاني (مود) الى العراق .


طلب أبي من مدير تلك الدائرة اخلائها والانتقال الى مكان اخر وجاء بعائلة مؤلفة من خمسة اشخاص للسكن فيه من اجل تحقيق فكرته وهي تحويله الى اسطبل للخيول العربية وهو الاول في المدينة آنذاك . فقد كان لديه عشق قديم للخيل وقد خصص احدى الغرف للسروج (وهي من الجلد الخالص) وحدوات الاحصنة (تسمى آنذاك النعل) والأعِنَّة ( الرشمة ) التي كانت احداها مصنوعة يدويا من قبل اليهودي ( اسحاق ابن الياهو ) وهي من الفضة الخالصة الموجودة حتى الان في مقتنيات اخي . وكذلك مسامير كثيرة وحبال وعدد من الفرش الزاهية لتنظيف وغسل الخيول وغيرها الكثير من الادوات . كان يذهب في الصباح ليساعد العمال في تنظيف حصانه الخاص الذي كانت كنيته (الاصيل) وتفريشه ووضع السرج عليه واطعامه مكعبات السكر الصغيرة ... بعدها كان يصهل عرفانا بالجميل . وكان المتصرف وقتذاك جارنا وهو (احمد حالت) جد الاميرة هيام زوجة الوصي عبد الاله وكان يرافق ابي في نزهته على الخيل إلى قريتي الهويدر وخرنابات واحيانا يتسابقان في المناطق القريبة . وبعقوبة حينها محاطة بالبساتين من كل جهاتها وحتى في وسطها ولهذا سميت ام البساتين . وفي احدى الايام سرد لي الشيخ سليمان ابو فريد جد اولادي ذاكراً الماضي الجميل قائلاً :

عند انتقالي من القرية الى بعقوبة شاهدت رجلا أنيقا كان يبدو واثقا من نفسه يمتطي حصانا هيئته تدل على انه من الوجهاء تتدلى على صدره ساعة من الذهب تعلوها ليرة ذهبية . فسألت من كان معي في المقهى من ذلك الرجل ؟


فقالوا : هذا وحيد اهله ومن عائلة محمد علي الفدعم . ومضت الايام وفي منتصف ثلاثينيات القرن الماضي فوجئنا بعامل الاسطبل يطرق الباب بشكل مستمر ومفزع على غير العادة . ثم اخبرنا بان حصان والدي قد سرق حيث نسي العامل ان يغلق باب الاسطبل ليلا فاستشاط غضبا وخرج مُسرعا وذهب الى المقهى واعلن ان ساعته الذهب والليرة والسلسلة ستكون مكافاة لمن يجده وبعد تحريات ومُناشدات علم ان السارق قد نقله الى جنوب العراق فذهب في اثره حتى عثر على ضالته ولكن بعد فوات الاوان فعند عبور الحصان نهر الفرات كسرت ساقه ولم يستطع النهوض فقتله اللصوص فعاد حزينا واغلق الاسطبل من شدة تأثره عليه . اصبح الدار فيما بعد مدرسة لسنوات عديدة ولكن بعد انتقالها الى مكان اخر ترك فارغا ورفض تأجيره .


عندما كنت صغيرة كان والدي يأخذني الى السوق ويشتري لي (ثعلبية) من السيد كمال ابو الدوندرمة وكبة حلب من السيد حسن الملقب (حجن) ويسمى هكذا لأنه كان يلفظ السين جيماً . وهناك الكثير من العربات المنتشرة التي تبيع اللبلبي والباقلاء في الساحة المقابلة للقنطرة المؤدية الى المنجرة وهي الان ( موقع مصرف الرافدين ) كنت امشي وفي يدي لفة الكبة وفي الاخرى ممسكة يده ونعبر القنطرة متوجهين الى المنجرة ونجتاز مطعم عطية وندخل (الدربونة) التي يوجد فيها الاسطبل وبدايتها تؤدي الى مقبرة بنت الحسن حاليا وحين نقترب ويفتح باب الغرفة المخصصة لأدوات الخيول وهي بكامل عدتها فلم يدخلها احد غيره حتى بعد ان اصبحت مدرسة لأنه بقي محافظا عليها . وبينما يقلب في السروج كنت ارى عيناه تفيض بالدموع حزنا على حصانه وقد احتفظ بالعنان المصنوع من الفضة في البيت تاركا كل شيء على حاله . واحيانا يخرجه وينظر اليها فيأخذه الحنين الى ( أصيل ) ويسترجع الذكريات كأنما الذي جرى قد كان بالامس فيعود الى ذلك الامس بذكريات خاوية ...

تعليقات

أحدث أقدم