الشيعة وصناعة الرمز .

مشاهدات



د . سامي الزيدي 


ليس سهلا صناعة رمزٍ او أيقونة تجعل من مجتمع بأكمله متوحدا ذا مرجعية واحدة يحمل خيار التضحية والعطاء يحركه انتماؤه لذلك الرمز بقوة ويجعله أمام خيارات واحدة ويصنع له نمط تفكير واحد وتصور يكاد يتشابه . 

ان مجتمعا يحمل رمزا ضخما يتوارثه عبر الأجيال تعجز مجتمعات أخرى عن صناعة مثله تجعل ذلك المجتمع محط أنظار اعداءه ، ولعل وجود تلك المرجعية الرمزية التي تشكل جوهر الانتماء والتعاضد لذلك المجتمع تجعله مجتمعا يملك قوة التوحد والتماسك على الرغم من خصوماته الداخلية إذ بمجرد أن يجتمع تحت أيقونة الرمز ينخرط في سيل النهر المتدفق نحو الوجهة التي تجمعه بعقل المجتمع الجمعي والذي يتحرك ضمن مرجعيته الرمزية .

أن أخطر الرموز التي يخشاها العدو هي تلك الرموز التي تولد من رحم المجتمع وتحمل معاناته واوجاعه ولادة طبيعية لم يساهم الإعلام او الظرفية  بولادتها إنما جاءت بمخاض عسير والم وقهر ،  والاكثر خوفا ان الرمز المولود المتصاعد مع حاجة المجتمع يلبي له حاجاته ويصلح ان يتقمصه بديلا عن الإحساس المكبوت بداخله .

لقد مثل الحسين ع عند الشيعة على طول تاريخهم رمزا لا يقبل المساومة ولا يمكن أن يطفىء اشعاعه المغرضون فلقد مثل مرجعية مجتمعية ورمزا شعبيا لكل الشيعة وصار ملهما لوحدتهم وثورتهم وتماسكهم فامام طقسيات عاشوراء تذوب الخلافات ويتحول الانتماء إلى الرمز وحده وتنصهر الجموع المشتته في بوتقة عاشوراء الثورة والنضال .

والحسين عند الشيعة رمز قيمي أكثر منه رمز ديني فهو يمثل الشجاعة والإباء والبطولة والشهامة والعطاء والكرامة التي لا تذل، كما يمثل الثورة على الظلم فهو شعار يحمله المظلومون على طول تاريخهم وهو يمثل العدالة والحق أمام السلطة الباطلة المستبدة .

هذه التعددية في رمزية الحسين جعلته حيا في ضمير الشيعة . كما أن المحرومية والظلم والاضطهاد التاريخي لهذه الطائفة وجدت نفسها تقترب من الرمز المظلوم المقهور الذي شكل بداخلها ثورة لا تخمد ولا تهدأ فهي ثائرة متى ما وجدت اضطهادا وتعسفا فرمزها القائد حاضر باستمرار يحمل قيما متعددة ممكن ان يحرك التجمعات المنكوبة نحو التحرر والنهضة .

ان أكثر ما يخشاه أعدائهم هو هذا الحشد الرمزي الذي يتحول من خلاله الشيعة إلى يد واحدة ضاربة يصعب اختراقها كون رمزها حيا متدفقا بالعطاء رغم المحاولات الكثيرة التي أرادت قتل ذلك الرمز واخفات نوره ، ومحاولة خلق رموز أخرى دينية واجتماعية  وتحشيد الإعلام الموجه بغية إسقاطه واختراق أصحابه إلا أن في كل مرة يتفاجئ أعدائهم بأنهم بمجرد أن يُقبل المحرم يتجمع أولئك الشيعة بخطاب واحد ( لبيك يا حسين ) شعارا يحملونه رمزا للوحدة ونبذا لكل الشعارات الأخرى وهو إنما نداء الرمز الخالد المتجسد في ملحمة كربلاء .

لقد تحول الحسين من رمز ديني عند الشيعة قديما إلى رمز شعبي مجتمعي قيمي عند المتأخرين منهم . فلعل دخول الممارسات العنيفة مؤخرا في تمثلات الطقس العاشورائي لدى العامة من الناس مع الاعتراض الفتوائي عليها لم يكبح جماح ممارسيها إذ أنهم لا يعتقدون بخضوع هذه الطقوس إلى المؤسسة الدينية إنما تخضع للمؤسسة الاجتماعية التي تتحرك بايقاعات العقل الجمعي وطقسيات الفعل الشعبي ، فليس للمؤسسة الدينية الشيعية بكل تفرعاتها القدرة على ضبط الإيقاع الطقسي الحسيني العاشورائي ، ولعل معيار بقاء الرمز الديني حاضرا ومؤثرا بقوة في الفعل الاجتماعي الشيعي يقاس بمدى ارتباطه بعاشوراء وتمسكه بالرمزية الحسينية .

كما أن هذه الممارسات لا تمثل مدرسة فكرية أو أخلاقية وليس من المناسب المطالبة من ممارسيها تعديل بعض السلوكيات الأخلاقية بعد فض هذه المناسبة إذ أن الطقوس حالة وجدانية وحاجة إنسانية تخلق بيئة مناسبة لإخراج بعض المكبوتات من خلال الالتصاق بالرمز وتقمص صورته والاندماج الوجداني بذات الصورة المتخيلة للرمز . فبمجرد ان ينفض اجتماع الجموع تهدأ الانفعالات ويعود الناس إلى سلوكياتهم وأعمالهم يمارسون طبيعتهم الأولى قبل الاندماج بالرمز . فمتى دعت الضرورة تحرك العقل الجمعي نحو الوحدة تقودهم مرجعيتهم الرمزية التي هي أساس وحدتهم ومحرك توجهاتهم وزخم انفعالاتهم وتماسكهم .

لقد نجح الشيعة في صناعة رمز يحمل بعدا تاريخيا وقيميا عجزت الكثير من المجتمعات والطوائف على صناعته ولعل قوة التماسك الشيعي تكمن في قوة رمزهم وقدرته على التواصل التاريخي مع الأجيال وحمولته المقدسة . 

كما أن الرمز الشيعي رمز تتمثل فيه انوار النبوة فهو يحمل بعدا دينيا وبعدا تاريخيا .. وتتجسد فيه عناوين الإصلاح والثبات على المبادئ ، فليس فيه زاوية قابلة للخرق وليس في ارضيته هشاشة للسقوط ، فبُعده الدنيوي حاضر في تراث الاسلام ( حسين مني وانا من حسين ) وكذلك بُعده الاخروي( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ) . ان استمرار وبقاء الشيعة تاريخيا مع ما تعرضوا له من اضطهاد وقتل وتشريد يعود إلى جوهر تمسكهم بالرمز الحسيني والتفافهم حوله والعمل على أحياء طقوسه ، فكلما واجه عنفا واضطهادا اشتد التمسك به أكثر ، ان الماكنة العدائية بما تحمل من خطط ومشاريع لتفكيك التجمع الشيعي وعلى مدى التاريخ فإنها تجد نفسها فشلت بعد كل الجهود المبذولة لان الرمز لم يتم تفكيكه واسقاطه . كما أن الشيعة لا يتمسكون بالمؤسسة الدينية بقدر تمسكهم بعاشوراء فمن الممكن أن تنجح العلمانية بتفكيك الدين وإضعاف تأثيره الاجتماعي إلا أنها ستصتطدم بوجود الرمز الفاعل المحرك الذي يجمع ولا يشتت ويوجه بقوة ويقف حائلا أمام المخططات .

تعليقات

أحدث أقدم