النظام الإيراني : الوجه الآخر للشيطان

مشاهدات




محمود الجاف

في تاريخ السياسة والسلطة غالبًا ما ترتدي الأنظمة وجوهًا متعددة؛ تتلوّن بحسب مصالحها وتخطط بعناية من خلف الستار. بعضها يتكلم بوجه ملاك، وبعضها يتخفى وراء حلة العاقل الهادئ أو السياسي المحنك، وآخر يتقن صناعة الفوضى بدقة تشبه حركة الظلال في الممرات الضيقة . لكن في واقع الشرق الأوسط اليوم يظهر نظام يجيد لعبة الوجوه إلى حدّ يذكّر بطريقة عمل الشيطان نفسه : يقتل، يسرق، يغري، يزرع الفوضى، يدّعي البراءة، ويقدّم نفسه كضحية بينما يحرك النار تحت أقدام الآخرين .

هذا النظام هو النظام الإيراني .

وقد قدّم الزمان والمكان مثالًا حيًا على هذا النفاق السياسي عبر تصريحات محمد جواد ظريف قبل أيام، بينما الواقع على الأرض في سوريا ولبنان والعراق واليمن يكشف وجهًا آخر تمامًا؛ وجه الخراب والعنف والفساد .

استراتيجية الفوضى والتبرير

على امتداد عقود، أتقن النظام الإيراني فن إدارة الملفات من خلف الستار عبر شبكة من الأذرع والميليشيات التي تنشط تحت شعارات مختلفة، لكنها تتغذّى جميعها من المصدر ذاته. يُنشئ التحالفات، يموّلها، يدربها، يسلّحها، ثم يطلقها كقطع شطرنج تتحرك وفق حساباته الدقيقة. وعندما يشتعل الحريق، يطلّ النظام بوجه “البراءة السياسية” معلنًا أن تلك الفصائل مستقلة وأنه لا سلطة له عليها، في محاولة لخلق مسافة وهمية بين الفعل والفاعل .
في العلن، يستخدم لسانًا ناعمًا يحمل وعود “المقاومة” ويدّعي حماية الدول والشعوب. وفي الخفاء، يوجه لسانًا آخر : لسانًا ينسج التحريض، يزرع الانقسام الطائفي، يغذي الصراع، ويغرق الدول بالسلاح والفساد والدم . هذا الازدواج ليس تكتيكًا عابرًا، بل استراتيجية كاملة : أن تكون في كل مكان دون أن تتحمل مسؤولية أي شيء.

والنتيجة واضحة : خراب يتنقل من سوريا إلى لبنان، ومن اليمن إلى العراق، حيث دفعت الشعوب ثمنًا باهظًا من القتل والتهجير والفقر . والأخطر أن هذا السلوك دفع كثيرًا من العرب رغمًا عنهم إلى إعادة مراجعة حساباتهم، حتى أن بعضهم بات يفكر في التطبيع أو التعاون مع قوى لم يكن يفكر بها، لا حبًا فيها، بل هربًا من جحيم واقع صنعته السياسات الإيرانية عبر وكلائها . وفي الوقت ذاته، يواصل النظام بناء سرديته المفضلة : “العرب خونة”، “السنة متآمرون”، “الآخرون عملاء”. سردية تعمّق الطائفية وتشوه الهوية العربية والإسلامية، بينما الفاعل الحقيقي يختبئ خلف القناع .

ربط الواقع بتصريحات ظريف : ازدواج الخطاب

هنا تتضح الفجوة بين ما يُقال وما يُفعل. قبل أيام، وفي منتدى الدوحة 2025، قال ظريف إن بلاده “لا تسعى إلى صراع مع إسرائيل” ولا تريد حربًا، لكنه في الوقت نفسه أكد أن إيران “قادرة على الرد” وأن الحرب الأخيرة كانت “نتيجة سوء تقدير من العدو”.

هذا التناقض بين إعلان البراءة وبين لغة الردع والتهديد يعكس تمامًا الوجه المزدوج الذي أتحدث عنه في هذا المقال : وجه أمام الإعلام، ووجه آخر في سياسات الظل. يدّعي السلام والدبلوماسية، بينما الواقع مليء بصراعات الميليشيات والحروب بالوكالة. يقول إنه لا يريد صراعًا، بينما تثبت التحركات والأسلحة والأذرع العكس تمامًا.

وعندما يُسأل عن دوره في الخراب، يجيب بالعبارة ذاتها التي يجيدها الشيطان :

“ ما دخلي أنا؟ ”

لماذا كشف هذا الوجه ضرورة ؟

إن الأنظمة التي تبني نفوذها على الفوضى لا تزدهر إلا في العتمة؛ تنمو حين تُطفأ الأنوار. وأخطر ما في النظام الإيراني ليس أذرعه ولا ميليشياته ولا حتى دعايته، بل قدرته على الظهور بوجهين في لحظة واحدة : وجه يبتسم كأنه يجلب الخلاص، ووجه آخر ينسج الخراب من خلف الستار .

تصريحات ظريف الأخيرة، التي تتظاهر بالسلام وتوزع كلمات التطمين، لا تغيّر شيئًا من واقع الجيوش الموازية والميليشيات التي ترهب المنطقة.

إن كشف هذا الوجه ليس كراهية ولا تحريضًا، بل ضرورة سياسية وأخلاقية؛ لأن الأقنعة لا تسقط وحدها، بل تُنتزع عندما يقرر الناس أن يروا الحقيقة كما هي، لا كما تعرضها آلة الدعاية.

وحين تُكشف الحقيقة تُفهم أن “الشيطان” ليس كائنًا غيبيًا فحسب، بل نهج سياسي كامل يقوم على التضليل، وصناعة الخراب، وتحميل الآخرين مسؤولية نيرانٍ أشعلها بيديه .





 

تعليقات

أحدث أقدم