مقامة تأجيل الصدمة

مشاهدات

 صباح الزهيري


في رواية قمح داكن على المعصم , تقدم الروائية السورية نجاح إبراهيم مفهومًا أدبيًا ونفسيًا عميقًا : تأجيل الصدمة , يصف هذا التعبير الذي أشاد به صاحبنا حالة نفسية نادرة تتجاوز مجرد تأخير الشعور , إنها آلية دفاعية تُجبر فيها الذات على تأجيل ردود الفعل العنيفة تجاه حدث مروع , ليس بهدف الهروب , بل لتتمكن من مواصلة البقاء. بين الفكرة والإبداع : ولادة المفهوم , الفكرة هي أساس أي نص , فهي الوردة وحسناء النص التي يزرعها الكاتب ليقطف القارئ ثمرتها , وُلد مفهوم تأجيل الصدمة من رحم المأساة التي سردتها الروائية , حيث تجاوزت الأحداث المروعة طاقة التحمل البشري , يتجسد هذا في المشهد المقتبس من الرواية : وهو الانشغال بلملمة الاشلاء و سحبها من تحت الانقاض , أمام هذا الهول , لم يكن هناك متسع للانهيار الفوري , كان الوعي مشغولًا بما هو أبقى وأكثر إلحاحًا : لملمة الحياة المتبقية , هنا , أظهرت الكاتبة موهبة فطرية في تحويل هذا الواقع الصادم إلى حالة إبداعية متفردة , مما جعل التعبير لا ينسب إلا لها. بلاغة اللغة وجمال التلقائية , تتميز اللغة العربية بدقة مفرداتها , حيث تخصص لكل حالة تعبيرًا فريدًا , وقد أشار ابن خلدون إلى هذه الظاهرة قائلًا :


كانت العرب تضع الشّيء على العموم ثمّ تستعمل في الأمور الخاصّة ألفاظًا أخرى خاصّة بها , ما فعلته نجاح إبراهيم هو تطبيق عملي لهذا المبدأ , فهي لم تكتفِ بوصف الصدمة , بل ابتكرت لها تعبيرًا خاصًا يختزل معاني عميقة , هذا الإبداع يكمن في عفويته وتلقائيته , حيث تأتي الكلمات معبرة عن أدق الفروقات في المشاعر دون تكلف أو تصنّع , مما يرفع النص إلى مستوى فني عالٍ . تأملات في واقع مؤلم , الرواية ليست مجرد قصة من الماضي , بل هي مرآة تعكس الواقع المؤلم في سوريا , حيث تتكرر المآسي ويقف العالم متفرجًا , هذا الواقع يثير تساؤلات حول حالة المازوخية العالمية , وهي حالة نفسية يتلقى فيها الشخص متعة أو إثارة من التعرض للألم , يبدو أن العالم قد أصيب بهذا الداء , حيث بات يتلذذ بمشاهدة الألم , بدلًا من محاولة وقفه. يمكن للشعر أن يجسد حالات نفسية معقدة , وكيف أن تأجيل الصدمة قد يأخذ أشكالًا متعددة , من الهروب المؤقت إلى الحنين المؤلم , وصولًا إلى اليأس الكامل , ففي حالة الهروب المؤقت من الواقع , تُعد قصيدة الشاعر السمة بن عبد الله القشيري مثالًا جيدًا على حالة الهروب من الواقع المؤلم وتأجيل الشعور بالصدمة , من خلال العودة بالذاكرة إلى الماضي الجميل , ففي لحظة ابتعاده عن أحبته , يختار الشاعر أن يعيش في ذكرى نجد , ليؤجل بذلك إحساسه بمرارة الفراق : أقـول لصاحبي والعيس تهوي بنا بين المنيفة فالضمـار, تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار, ألا يا حبذا نفحات نجد وريّـا روضة بعد القـار, وأهلك إذ يحل الحي نجدا وأنت على زمانك غير زاري , هنا , يطلب الشاعر من صاحبه أن يستمتع بآخر نفحة من رائحة نجد , وكأنه يمدد اللحظة الجميلة لكي لا يواجه حقيقة الفراق القاسية , إنه هروب مؤقت يهدف إلى تأجيل الصدمة , وهو ما يعكس حالة تأجيل الصدمة التي وردت في الرواية .


وفي حالة الصدمة المؤجلة التي تتحول إلى حنين , نقرأ قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب النهر والموت , يمكن أن تكون نموذجًا آخر , فالنهر هنا بويب يمثل الماضي الجميل , ولكن الشاعر لا يرى النهر كما هو , بل يراه عبر صدمة الموت والفقد : أود لو عدت في الظلام أشد قبضتي تحملان شوق عام في كل إصبع كأني أحمل النّذور إليك من قمح و من زهور, أغابة من الدموع أنت أم نهر , هنا , يتحول النهر من مجرد مكان إلى غابة من الدموع , الصدمة لم تأتِ مباشرة عند الفراق , بل تحولت مع الوقت إلى حنين مؤلم , هذا التأجيل جعل الألم أكثر عمقًا , حيث تحوّل النهر من رمز للحياة إلى رمز للموت . اما حالة الصدمة التي تؤدي إلى اليأس واللامبالاة , تأتي قصيدة الشاعر جبران خليل جبران التي يقول فيها : الخيرُ في الناسِ مصنوعٌ اذا جُبروا , والشرُّ في الناسِ لا يفنى وإِن قُبروا , وأكثرُ الناسِ آلاتٌ تحركها أصابعُ الدهر يوماً ثم تنكسرُ , فهذه الأبيات تعكس صدمة من نوع آخر, صدمة اليأس من الطبيعة البشرية , الشاعر هنا لم يعد يستطيع أن يرى الخير في الناس إلا وهو مصطنع , وهو ما يؤدي إلى حالة من اللامبالاة والانسحاب من المواجهة , هذه الصدمة لم يتم تأجيلها بشكل واعٍ , بل أدت إلى حالة من اليأس الكامل. ختاما : رسالة وفاء للإبداع , في محراب الإبداع , نقف إجلالًا للروائية نجاح إبراهيم , فبما أنها أدركت أن النص هو أيقونة الجمال النثري على متحف الإبداع , استطاعت أن تستولد من المعاناة صورة إبداعية متوهجة , انه موجع تعبيرك يا راوية الوجع , فإنثيالاتك الشجية ما هي إلا خلاصة معاناة مأساوية مع الذات ومع الموضوع , استولدت هذه الصورة الإبداعية المتوهجة , شكرًا بحجم الكون لهذه الهدية الكريمة , ودام حسك مرهفًا نابضًا بالإبداع والتوهج.


تعليقات

أحدث أقدم