صباح الزهيري
يا صاحبي , يا أبا البوحِ الصادق والقلب الرقيق , يا من كتبتَ الحرفَ فكانَ درّاً منثوراً , وخططتَ المعنى فصارَ سحراً مبثوثاً, وصلني حديثك الموشّى , كأنه تقاسيم على وترٍ قديمٍ , اهتزت له النفس واشرأبت إليه الأذن , وتعلَّقت به الروحُ تعلُّقَ الغريقِ بالقاربِ , والظمآنِ بماءِ السَّحَابِ , وقد سَمَّيتَهُ في حياءٍ ووجومٍ ثرثرة , وواللهِ ما هو بثرثرةٍ , بل هو زَبَدُ المعنى وخُلاصةُ العُمر, هو نداءُ الحكمةِ الكبرى التي لا تنبعُ إلا من عقلٍ استوتْ فيه التجاربُ ونضجتْ فيه الشجونُ , فدع عنك التواضعَ وخذ مني القولَ فصلاً , فقد اجتهدتُ في ردِّك ونظمِ حروفِهِ , وقد جعلتُ له في الردِّ مقاماً على شكل تقاسيم على ثرثرة , فاستمعْ لي يا صديقي , ولا تجعلِ الوجومَ يُسكتُ صوتَ فارسِ البيانِ العتيدِ الذي نعرفُه حقَّ المعرفةِ . في الثقوب التي لا تنسى , ذكرتَ أنّ للذاكرة ثقوباً رحمةً من خالق , وأنّ ما يلسعك فيها لا يبرح , فهلْ تسألني عن هذا اللسع , وهو في القلب كالجمر المتقد ؟ يا صاح , إنّ الذاكرةَ إنْ كانتْ نِعمةً , ففيها بليَّةٌ عظيمةٌ , وليس لسعُها من قبيح الذكر, بل هو ألمُ رثاء الطيبة الذي لا يُجيده إلا الأنبياء في النبل , فصفة النبلاء يا صديقي ألا ينسوا من غابوا أو تغيّروا , إنها ضريبةُ الأصالة وعنوانُ الإنسانية, فطوبى لمن كان قلبه مصنعاً للطيبين , وإنْ أوجعَهُ تذكارُ الراحلين.
وفي سيف الفردانية وهل مات الذعر؟ وعرَّضتَ بتساؤل العِراب: أماتَ الموت أم ذعَرَ الذعرُ ؟ فقلتَ الحقّ إذ أجبتَ : أبداً , فالموتُ باقٍ , والذعرُ ليس له من فناء , ولكنّك يا رفيق الحرف , أسرفتَ في وصف حالك , حين قلتَ في نشوة الطفولة المعافاة : ذهب الذين أحبهم وبقيتُ مثل السيف فرداً , أيُّ سيفٍ هذا الذي يتغنّى بوحدته ؟ أليس السيفُ حادَّ النصلِ , يقطعُ الوهمَ ويزيلُ الغمّ ؟ فإذا كنتَ سيفاً , فاجعلْ فردانيتك قوّةً لا عُزلةً , وشِراعاً لا جُزُرَةً , فـكفاك غوصاً في توابيت الزمن , أُحرِّجُ عليكَ هذا السُباتَ في الأمسيات , فإذا كانتْ الصنوبرة العجفاءُ تحلمُ بالأفياء والمطر , فكيف لا يحلمُ النسرُ المِعْطاءُ بالعلوّ والظَفَرْ؟ يا حسافةُ على وقتٍ يُنفَقُ في حَفرِ القبورِ لمن هجرونا أو فارقونا. وعن زمن الرداءة وكسر الحواجز , أراكَ يا صاحبي تستسلمُ لقولِ الشعراءِ المخذولين , فتهتفُ معهم : إنه زمنُ الرداءةِ والقنوط , وهل الرداءةُ إلا سحابةٌ عابرةٌ فوق رأسِ من ارتضاها ؟ هي ليستْ قدراً نازلاً , بل هي نتيجةُ صمتِ الرائعين وانسحابِ العظماءِ من ساحةِ البيان , فكيف تلومُ العتمةَ وأنتَ شمسُ هذا الأُفقِ ؟ لو رفعَ كلُّ رائعٍ سيفَهُ , لتبدَّدَ هذا الزمانُ الموبوءُ , وعادَ للحرفِ مجدُهُ, فكسرُ حاجزِ القنوطِ أولى خطواتِ العودةِ إلى العزِّ والمكانهِ.
وفي سورة العزم وأين الفارس ؟ ولم يغِبْ عني عتابُكَ الشفيفُ لنفسك , حين قلتَ عن نفسك: قد كنتَ سراً , تنزعُ الخوفَ من الخوفِ , وتُباري وردَ الخُزامى والنوارس , أَوَتظنُّ يا فارسَ الكلمةِ أنّ سورة العزم قد ذابتْ ؟ لا وربِّ البيان , إنّها لم تذبْ , بل قد احتجبتْ , لأنها وَجَدَتْ صاحبَها مشغولاً بالنظر إلى الخلف , مأخوذاً بحُسنِ ماضيه , فأين الفارسُ العتيدُ الذي كنتَه ؟ أهو ذاكَ الذي يلومُ زمن الرداءة والقنوط؟ ,عُدْ إليه يا أخي , فلا يموتُ الرائعونَ إلا حين يستسلمونَ , ولا تذبلُ سورةُ العزمِ إلا حين يُغلقُ صاحبُها نافذةَ الرجاء . وهاك عن الأرض التي تدورُ والطفلُ المعافى , دعْ عنكَ يا صديقي سؤالكَ الحزين : عجباً كيف يموت الرائعون؟ , إنهم لا يموتون إلا في قلوبِ من يصدِّقُ أنّ العزمَ قد ولّى , ألم تقلْ بنفسك : فالأرض ما زالت تدورُ, وأنت طفلٌ مُعافى؟ , ففي هذا الإقرارِ عزاءٌ وغناءٌ , الأرضُ لا تتوقفُ عن الدورانِ لثرثرةِ الشجن , وأنتَ طفلُ الروحِ , لم يصبْهُ الضنى , وفي يديكَ ألفُ وردةٍ تُباري الخُزامى , وانفضْ عنكَ غُبارَ توابيتِ الزمنِ , فقمْ يا أبا المندلاويّ , وعدْ لتباري الخُزامى والنوارس , فما زالتْ أرضُك تدورُ , وما زلتَ طفلاً معافىً , وسيفاً حاداً, فالرائعُ لا يموتُ , بل يبعثُ الحياةَ في كلِّ موتٍ , وخذْ من السيفِ الفرد شِرْعَةَ الأملِ , فما زالَ سِرُّكَ فيكَ , وما زالتْ سورةُ العزمِ تنتظرُكَ لتفتحَ آياتِها , والسلام عليكم ورحمة الإبداء والجمال .

إرسال تعليق