مشاهدات
صباح الزُّهَيْرِيّ
أسوأ ما تداولته منصات إعلامية وحسابات على مواقع التواصل , هو مقطع فيديو يظهر جرافة تُطيح بتمثال العلامة مصطفى جواد في مدخل قضاء الخالص بطريقة تفتقر إلى الحضارة , هذه الواقعة أعادت إلى الواجهة الحديث المؤلم عن طريقة تعامل الجهات الرسمية وغير الرسمية مع الرموز الثقافية في الفضاء العام , ويُعدّ مصطفى جواد (1904 – 1969) من أبرز أعلام اللغة العربية في العراق , وذا أصول تعود إلى قضاء الخالص , وهو صاحب البرنامج الإذاعي الشهير قل ولا تقل , والحاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون بباريس , بالإضافة إلى مؤلفاته وترجماته الغزيرة من الفرنسية والإنكليزية والتركية والفارسية , إن إزالة تمثال له قيمة ثقافية بهذه المكانة , وبهذه الطريقة المهينة , تُعدّ إهانة للتأريخ الثقافي للعراق كله.
وعن جدل الإزالة بين الهوية والجهل المُقدس , تثير إزالة تماثيل المشاهير في العراق جدلاً واسعاً بين مؤيد ومعارض , فالمؤيدون يرون أن الإزالة قد تكون ضرورية لأسباب تتعلق بـالهوية أو التأريخ , أو قد تكون جزءاً من مشاريع تأهيل مدني وصيانة , أما المعارضون , فهم يعتبرونها هجوماً على التراث الثقافي والتأريخي , ويرون أن الدعوات لإزالة رموز مثل تمثال أبي جعفر المنصور أو الواثق , وسرقة تمثال عبد المحسن السعدون , وتدمير نصب قوس النصر , لها أبعاد سياسية وطائفية تُستخدم لإثارة الصراعات وإشغال الشارع العراقي , وفي بعض الحالات , تكون الأسباب المعلنة دينية أو طائفية , كما حدث مع تمثال الملك كوديا السومري الذي أُزيل من مدينة الدواية في ذي قار , وهو ما أدانته مفتشية الآثار ووصفته بهجمة شرسة على رموز الثقافة والفكر , حيث تداول البعض نية استبداله بنصب يمثل القرآن الكريم , أما مجسم الإبهام أمام فندق في بغداد , فقد واجه انتقادات واسعة بسبب تصميمه , وهو مثال على الإزالة التي تطالب بها شرائح واسعة لأسباب جمالية وفنية بحتة. وفي فوضى ما بعد الغزو الأمريكي للعراق , توالت أعمال هدم وتخريب التماثيل لأسباب مختلفة , وكان أبرزها إزالة تماثيل ضباط انقلاب عام 1941 , وتحطيم تماثيل في شط العرب بالبصرة , ويؤكد أستاذ مادة النحت بأكاديمية الفنون الجميلة أحمد عبد السلام أن الفراغ الأمني تسبب في تحطم أو سرقة أو إزالة الكثير من التماثيل التي نحتها نخبة من أبرز الفنانين , مشيراً إلى الأضرار التي لحقت بتمثال كهرمانة باعتباره من أجمل تماثيل العاصمة , وأشاد عبد السلام بالنخبة الفنية العراقية أمثال محمد غني حكمت وخالد الرحال وإسماعيل الترك الذين تعاملوا بثقافة مع قوالب البرونز بعد رحيل المعلم الأول جواد سليم , ومن جهته , أشار المهندس أنور سالم من أمانة بغداد إلى أن السبب الأهم لتحطيم وسرقة التماثيل هو الحصول على مادة البرونز التي تتكون منها تلك الأعمال , مضيفاً أنه لا يوجد توجه حكومي للإزالة , وإنما هناك انفعالات شعبية مقترنة بتفسيرات سياسية وتأريخية تقف وراء تحطيمها , كتلك التي نجم عنها تحطيم تمثال مؤسس بغداد أبي جعفر المنصور الذي أنجزه خالد الرحال , كل ما تقدم من حوادث تسيء إلى العراق تأريخاً وحضارة ومكانة . هذا ما أنتجه الجهل المُقدس والتعليم المُنهار , ويختم الدكتور كاظم المقدادي تحذيره قائلاً :
من يدري؟ ربما غداً نسمع عمن سيهدم تمثال المتنبي , وإقامة تمثال لحسنة ملص مكانه , ألم يفجّر جَهَلة الأحزاب الدينية تمثال أبي جعفر المنصور؟ وهل سلم منهم الشاعر البغدادي أبو نؤاس , الذي قطعوا يده التي تمسك بالكأس , وكأنهم يريدون منه حمل مسبحة مكان الكأس , ويُضيف المقدادي مستخلصاً الجذور الحقيقية للمشكلة : يبدو أننا أمام مشكلة حقيقية , تتعلق بتفشي الجهل المقدس , والجهل المُكدّس , والجهل المُكرّس , بعد أن باتت الشهادات العليا تُباع في شارع باب المعظم , وبعد أن أصبحت الجامعات الأهلية لا تُدار بنظام العلم والكفاءة , بل بنظام الجهل والتفاهة , هذا الواقع المحزن الذي يفتقر فيه المسؤول عن سياسة التربية والتعليم العالي إلى أبسط مقومات القيادة الأكاديمية , يُنتج جامعات خاوية على عروشها , لا تنتج علماً ولا تترك أثراً في عقول الطلبة , وبدلاً من أن تقدم العلم للجميع , صارت تقدم لنا الجهل للجميع .

إرسال تعليق