مشاهدات
محمود الجاف
منذ أن خلق الإنسان وهو يحاول أن يفهم اسباب اتساخ العالم من حوله . لماذا تتعفن الأرواح كما يتعفن الجسد؟ ولماذا يفسد الطعام؟ ولماذا تبهت القيم ؟
النفايات ليست مجرد بقايا مادة، بل هي شهادة على فشلنا . فكل ما نرميه هو ما عجزنا عن إصلاحه أو احتماله أو فهمه . لانها في معناها الأعمق بقايا وجود غير مكتمل، صورة العالم عندما يفقد توازنه بين الحاجة والضمير . واليوم حين نتأمل واقعنا نجد أنفسنا نعيش وسط أكوام بعضها مادي تملأ الشوارع والمجاري والهواء وبعضها الآخر معنوي وفكري يملأ العقول والقلوب . كأن الكوكب بأسره أصبح مكبًا مفتوحًا لكل ما لفظه الوعي الإنساني من قيم وفضائل وعقول راقية .
ما هي النفايات؟
النفايات في جوهرها هي ما فقد قيمته ولم يعد صالحًا للاستعمال أو لا يحمل نفعًا . لان القبح لا يقتصر على الرائحة والمنظر، بل يمتد إلى السلوك والكلمة والفكرة . النفايات البشرية هي تلك النفوس التي فقدت نقاءها الإنساني وتحوّلت إلى مصدر للتلوث الأخلاقي والاجتماعي . هي العقول التي تتغذى على الحقد والكذب والأنانية وتفرز سمومها في المجتمع كما تفرز مكبات النفايات غازها السام . وهي أيضًا تلك الأفكار المكررة البالية التي فقدت قيمتها لكنها لا تزال تُروَّج وتُستهلك وكأنها حقائق مقدسة .
كيف نعيش بين النفايات؟
كيف نعيش بينها دون أن نصبح جزءًا منها . لأن العالم لم يعد نظيفًا ولا يمكننا أن نهرب من تلوثه المادي أو الفكري، لكن يمكننا أن نحافظ على طهارتنا الداخلية من خلال :
1 : الحفاظ على أنفاسنا الفكرية : لا تسمح للهواء الملوث بالأكاذيب أن يدخل إلى رئتي عقلك . اقرأ، تأمل، شكك، ولا تبتلع ما يُلقى إليك من أفكار دون وعي .
2 : اختَر مساحتك الآمنة : كما يبتعد المرء عن مكب النفايات ليحمي نفسه من العدوى، ابتعد عن البيئات التي تفوح منها رائحة الحقد أو الجهل أو النفاق .
3 : نقِّ قلبك كل يوم : فالقلب مثل الماء، إن تُرك ساكنًا فسد وإن جرى وتنقّى ظل حيًّا.
4 : لا تكن جامع نفايات فكرية : لا تكرر ما تسمع، لا تنشر ما لا تعي ولا تحتفظ بما يعكر صفاءك الإنساني .
5 : حوّل النفايات إلى طاقة: كما تُعاد تدوير النفايات لتصبح مصدرًا جديدًا للنفع، يمكننا أن نحول الألم والظلم والجهل إلى وعي وتجربة ونور .
ان أخطر ما في النفايات ليس وجودها، بل اعتيادنا عليها. حين نصبح جزءًا من المشهد القذر دون أن نشمّ الرائحة لان النظافة ليست فعلًا جسديًا فقط، بل هي موقف روحي وفكري . أن تعيش بين النفايات ولا تتلوث هو أعلى أشكال الوعي والنجاة . أن تعرف القبح وتختار الجمال، أن ترى الفساد وتظل نزيهًا، أن تسير في عالم مريض وتبقى سليم القلب والفكر . فالحياة بين النفايات ليست قدرًا، بل اختبارًا يوميًّا للإنسان :
هل يبقى نقيًّا رغم كل هذا العفن؟
أم يصبح دون أن يدري جزءًا من النفايات التي كان يهرب منها؟
لأن النقاء في نهاية الأمر ليس ضعفًا ولا هروبًا، بل هو آخر أشكال المقاومة حين يعجز السيف ويصمت اللسان ..

إرسال تعليق