"الدعم السريع" في الفاشر: استراتيجية الذئب

مشاهدات


عبدالله علي إبراهيم



كانت سيطرة قوات "الدعم السريع" على الفاشر مما يقال فيه "خوف الأماني أن يكن أمانيا". فما ذاعت مقاتل المدنيين في المدينة بعد انتصاره على القوات المسلحة حتى صار يومه عبوساً قمطريراً من فرط ردة استنكار العالم لما اقترفه جنوده . فتوعدته وزيرة أفريقيا في بريطانيا صاحبة قلم السودان لدى الأمم المتحدة، بأنه لابد أن يحاسب على أفعال عناصره في دارفور. ودمغه رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ، كـ"منظمة إرهابية أجنبية" في حين كانت بلده الولايات المتحدة رتبت في خطة الرباعية المنعقدة بواشنطن خلال يوم سيطرته على الفاشر، لتجريد القوات المسلحة من حلف الإسلاميين بدمغ الأخيرين جماعة إرهابية. ولن تجد بياناً عن أماني "الدعم السريع" التي صارت منايا بمثل ما تجده على قلم محمد لطيف محرر "طيبة برس" الذي عرف بشراسة قلمه في نقد القوات المسلحة دون "الدعم السريع". فقال إن الدعم أمرت نصرها بفظائعها التي ذاعت بعد السيطرة على الفاشر حتى كانت تلك مرته الأولى التي يرى "إجماعاً للقوى المدنية والقوى السياسية على شيء أكثر من إدانة الانتهاكات التي شهدتها الفاشر بعد سيطرة ’الدعم السريع‘". فأضاعت الدعم فرصة كبيرة لتكسب من نصرها في ملابسات تحققه لو لم تفسده بارتكاب هذه الفظائع في الفاشر. فقال إن الفاشر كانت تحت أنظار العالم الذي كان يتابع مفاوضات الرباعية في واشنطن والتحركات العسكرية على الأرض بتقدير لموقف "الدعم السريع" الإيجابي الذي استجاب للرباعية من دون الجيش . فكان نصره سينزل برداً وسلاماً على عالم ممحون مع الفاشر، لو لم يخربه بما اقترف من مقاتل. وزاد الدعم الطين بلة، في قول لطيف، بمحاولته تبرير انتهاكاته بلفت النظر إلى ما يقع من القوات المسلحة وكتائبها في الجانب الآخر بينما الخطة المثلى أن يفضح الانتهاكات ويدينها.

أما من كدرته فظائع الفاشر فهو خالد كودي الفنان التشكيلي والناشط في الحركة الشعبية لتحرير السودان (عبدالعزيز الحلو) حليف "الدعم السريع" في "تأسيس". فبدا من تعليقه الطويل أنه كمن "يفرز عيشته" فلا تزر وازرة الدعم على حركته، فأدان بغير لبس قتل الدعم للمدنيين وحتى العسكريين الذين لم يعد بوسعهم الحرب، مما يناقض القانون الدولي الإنساني وميثاق "تأسيس" نفسه. فالإدانة المنتظرة من "الدعم السريع" على انتهاكاته في الفاشر لحفظ قيم الثورة ومنع تكرارها، في قوله، ليست خياراً سياسياً، بل تعد واجباً أخلاقياً وثورياً. وبهذا يجدد الدعم الالتزام المطلق بميثاق "تأسيس". ووجد كودي، وصارت فظائع الدعم في خشم الناس، أن يقول إن تحالف "تأسيس"، كإطار تنسيقي، يجمع تنظيمات مختلفة ولا يدمجها فلا يلغي استقلالها. فكل تنظيم يتحمل المسؤولية المباشرة عن سلوك منسوبيه وأفعاله. فإن تجاوز تنظيم ما الأصول عد "خروجاً على الميثاق وخيانة لمبادئ الثورة قبل أن يكون جريمة قانونية، لأن التحالفات الثورية تبنى على الأخلاق أولاً، وعلى الانضباط القيمي الذي يجعل من السياسة فعلاً وعياً ومسؤولية، لا وسيلة تبرير أو إنكار، وعلى كل طرف في تحالف تأسيس تحمل مسؤولياته كاملة غير منقوصة". ورسم كودي برنامجاً ثورياً صارماً ليأخذ "الدعم السريع" به في درب إصلاح ما به على بينة أن هذه اللحظة عند الفاشر "اختبار أخلاقي مهم في مسارها الثوري، لا يقاس بحجم الأرض التي حررت بل بقدرتها على تأسيس سلوك جديد يليق بمشروع تحرر إنساني لا انتقامي". وشمل البرنامج أن تدرب الدعم قواتها على مبادئ القانون الدولي والإنساني وأخلاقيات الحرب، وإدماج ثقافة حقوق الإنسان في العقيدة القتالية لضمان أن تمارس القوة ضمن حدود القانون والثورة والضمير والعدالة. وشدد على الدعم كجيش ثوري أن يحاسب نفسه وإلا أعاد البنية نفسها التي خرج لحربها. فلم تأت الدعم لتبدل أسماء الجلادين، بل لإنهاء منطق الجلاد نفسه. أراد كودي لـ"الدعم السريع" ببرنامجه الثوري خيراً، لكن لا يعرف المرء كيف له عقد هذه الثورية الغراء على عاتق "الدعم السريع" الذي هو مباءة عنف مذ كان. فيمكن، كما يقال، أن تأخذ الحصان لمشرع ماء، لكنك لن تجبره على الشراب إن لم يشأ هو. وربما كان الأقرب من اليأس من "الدعم السريع" هو رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الذي قال "لم تكن الفظائع في الفاشر بدارفور صدفة، بل هي خطة قوات ’الدعم السريع‘ منذ البداية". ولن نبلغ فهم أن قدر "الدعم السريع" كجماعة إرهابية لا مجرد ارتكاب مثل فظائع الفاشر، بل توثيقها ليكلم الغائب الحاضر إلا إذا وقفنا على تركيبة هذه العصبة كقوة مسلحة. فلو تعلمت من فداحة ما ترتكب من فظاعات على سمعتها لعدت بما سفكت من دم في قرى ولاية الجزيرة خلال احتلالها لها خلال ديسمبر (كانون الأول) 2023. فالفظاعة من طبيعة الوحش الذي خرج لمغنم حرام أحسن فقهنا الإسلامي تقعيده بـ"الحرابة"، وهي البروز لأخذ المال، أو القتل على سبيل المجاهرة مكابرة اعتماداً على القوة.

ولنر صحة هذه الطبيعة في الممارسة :
وقف قائد ثاني "الدعم السريع" وسط جماعة من جنوده في الفاشر واستباح لهم كل ما تقع يدهم عليه من ممتلكات الحكومة من دون المواطنين. وهو يجدد هنا أمراً سبق له كان رحب به قائد من "الدعم السريع" (التاسع من أكتوبر) وجاء بما يحسنه. فطلب أن تقنن ملكية الواحد منهم متى غنم سيارة في الميدان. وكان الإجراء قبلاً أن تسلم السيارة للجنة موكول لها الأمر لتقنينها خلال وقت لاحق. وبدا أن هذه اللجان استأثرت بالسيارات من دون الغانم، حتى احتج فتى من "الدعم السريع" على تجريدهم من حق الغنيمة بقوله من أين له، والغنيمة محرزة، أن يقيم أوده ويعين أهله في حين أن الدعم لم يلتزم له بأجر معلوم. بل قال آخر إن ما حال دون سقوط الفاشر في يدهم لمدة طويلة هو امتناع الأشاوس من القتال في الخطوط الأمامية، وقد حرموا من الغنيمة. واقترح القائد الذي بدأنا الحديث به أن تكون مهمة اللجنة تقدير قيمة السيارة حيث هي في الميدان وأن تدفع لمن وضع يده عليها "كاش داون". لفظاظة "الدعم السريع" علاقة سبب ونتيجة بين تركيبته في عصب مسلحة ذات استقلال ذاتي داخله واقتصادها القائم على الغنيمة إكراهاً. فمقاتلوها من قبيلة قائد الجماعة، وأسلحتها مما اجتمع لهم بصور مختلفة، ولا التزام لـ"الدعم السريع" بأجور حيالهم ولا حتى بالتسليح.

تعليقات

أحدث أقدم