مشاهدات
صباح الزهيري
حدَّثنا شيخُنا المندلاوي الجميل أبو العِزِّ, مُحمَّدُ بنُ عُبيدِ اللهِ , قال : بينما أنا ذاتَ يومٍ أسيرُ في دُروبِ بغدادَ , وقد أكلَ الدَّهرُ عليَّ وشَرِبَ , وشَهِدتُ من صُرُوفِ الزَّمانِ ما شابَ لهُ الوَليدُ , ووقفتُ على حالِ النَّاسِ في هذا العصرِ الذي تاهتْ فيهِ العقولُ وضاعتِ الحُقوقُ , إذْ نادى مُنادٍ :
يا قومَنا , هلُمُّوا إلى شيخٍ خَبِيرٍ, يُفرِّقُ بينَ السَّمِّ والشِّفاءِ , وبينَ الرَّشوةِ والهديَّةِ , وما أصابَنا من الداءِ العُضالِ , فاجتمعَ حولَهُ قومٌ من سُقَاطِ النَّاسِ وأفاضِلِهِم , فاعتدلَ الشيخُ في جِلسَتِهِ , ونفثَ نفثَةً من صَدرِهِ , ثمَّ استهلَّ قائلاً :
يا مَعشَرَ الحاضِرينَ , ويا رِفاقَ دَرْبِ الفَنَاءِ , أما عَلِمتُم أنَّ البلاءَ إذا عمَّ سُمِّيَ نظاماً , والفسادَ إذا تفشَّى سُمِّيَ سِياسةً ؟ لَقد كُنَّا نُعاني من فسادِ الأنظمةِ , حتى جاءَ من جاءَ لا بنظامٍ يُصلِحُ , بل بنظامٍ للفسادِ, وكُنَّا نبحثُ عن مُنتَشِلٍ يرفعُنا من وَهْدَتِنا , فما حَظِينَا إلا بِنَشَّالٍ يسرِقُ ما تبقَّى من كرامَتِنا وعزَّتِنا. ويلي على زمانٍ أصبحَتْ فيهِ اليدُ العُليا هي اليدُ التي تَقبِضُ على ما ليسَ لها , ما أحوجَنا إلى فَهْمِ مِثلِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ رضيَ اللهُ عنهُ , إذْ قيلَ لهُ في الهديَّةِ : رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقبَلُها , فقالَ قولَهُ الفصلَ الذي صارَ حُجَّةً على كلِّ مُتَأوِّلٍ ومُتَعلِّلٍ :
إنَّها كانت لرسولِ اللهِ هديَّةً , وهيَ لنا رِشوةٌ , يا للهولِ , كم من دولةٍ طامعةٍ , وكم من نفسٍ طامعةٍ , تَتَّخِذُ الهديَّةَ جُنَّةً , وتَتَدثَّرُ بها خِداعاً , تُعطَى لِتَسْري الأُمورُ, وتُمنَحُ لِيُسدَلَ السِّترُ على سُحتٍ وعِوَجٍ , أليسَت الرَّشوةُ ما اتَّفَقَ عليهِ الرَّاشي والمُرتَشي والمُرتَعشِي الوَسِيطُ على عَطِيَّةٍ مُقابِلَ عَمَلٍ في صَلاحِيَّةِ الوظيفةِ أو امتِناعٍ عنهُ ؟ بلى , فكيفَ يُحَوِّلونَها إلى قَهوةٍ أو حلاوةٍ أو إكرامِيَّةٍ أو اتعابٍ أو نصيبٍ أو لَحسَةِ إصبَعٍ؟ أفَرَقَ بينَ الهديَّةِ والرَّشوةِ في كثرةِ الأسماءِ؟ لا وربِّي , بل الفَرقُ الجوهريُّ كامِنٌ في النِّيَّةِ, الهديَّةُ تُعبِّرُ عن الوُدِّ والمحبَّةِ , لا تَطلُبُ مُقابِلاً , ولا تُرادُ لأجلِ مصلحةٍ غيرِ مشروعةٍ أو قانونيةٍ , وهيَ مِمَّا يُورِثُ التَّآلُفَ , لِقولِ الصادقِ المصدوقِ صلى الله عليه وسلم :
تَهَادَوا تَحَابُّوا , أمَّا الرَّشوةُ فهيَ مَصلَحَةٌ وخِداعٌ وعَداءٌ , تُعطَى لِنَيلِ حقٍّ ليسَ لهُ أو لِإعفاءِ النَّفسِ من واجبٍ عليها , وهيَ الداءُ الذي نَهشَ في القضاءِ ودواوينِ الحُكمِ , وجعلَ الحقَّ يَصمُتُ والباطلَ يَنطِقُ , ومالَ بهِ ميزانُ العدالةِ , فضاعتْ الحُقوقُ , وسُلِبَتِ النِّعَمُ , وظُلِمَ المظلومونَ , ما ضرَّنا أنْ أصبحَ للمالِ صَدًى يتردَّدُ في أرجاءِ الدَّولةِ , لِيُغَيِّرَ القوانينَ والثَّوابِتَ . ويحَكُم , إنَّ الرَّشوةَ إنحطاطٌ أخلاقيٌّ ودِينيٌّ , لا يُبرِّرُهُ مُبرِّرٌ , وهيَ في شَرعِنا جَريمةٌ وكبيرةٌ , لَعَنَ اللهُ فيها الرَّاشيَ والمُرتَشيَ في الحُكمِ , إلا من أُجبِرَ على دَفعِها لِيُخلِّصَ حقَّهُ أو يَدفعَ عن نَفسِهِ الظُّلمَ , فحينَئذٍ يَأثَمُ الآخِذُ دونَ المُعطِي , فإنْ قُلتُم : كيفَ المُحارَبَةُ ؟ قُلتُ: بالعودةِ إلى الشَّرعِ وتطبيقِهِ , وبإحياءِ الضَّميرِ الإنسانيِّ ورُوحِ المَسؤولِيَّةِ , وبِوَأدِ هذهِ العادةِ فلا تكونُ سَبِيلاً لتَسْيِيرِ المُعاملاتِ , وبِإزالةِ من لا يَستَحِقُّ من مَنصِبِهِ , وبِوَضعِ قانونٍ رَقابِيٍّ رادِعٍ , وبِالإعفاءِ الأخلاقيِّ (تَقويةُ الدِّينِ) والمادِّيِّ (إعطاءُ المَوظَّفِ ما يَكفيهِ عَنِ الحَرامِ) , وبِتَيسيرِ المُعاملاتِ على المواطنينَ حتَّى لا يُضطَرُّوا إليها , فكُلُّكم راعٍ , وكُلُّ راعٍ مَسؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ. فإنْ لم نَفعلْ , فالبلادُ إلى تَأخُّرٍ ووَهَنٍ , والأجيالُ إلى ضياعٍ ويَأسٍ , ولن يَنجوَ إلا من رَحِمَ ربِّي , هذا ما أراهُ من أمرِ هذهِ الآفَةِ التي أضحتْ بَاءَتَنا وعارَنا , ثمَّ سَكَتَ الشَّيخُ المندلاوي ورفعَ طَرفَهُ إلى السَّماءِ وقالَ : اللهمَّ ردَّنا إليكَ رَدَّاً جميلاً , واكفِنا بحلالِكَ عن حرامِكَ , وبطاعتِكَ عن معصيتِكَ , وبفضلِكَ عَمَّن سِواكَ , وانفضَّ المجلسُ , وقد وَقَعَ القولُ في النُّفوسِ مَوقِعَهُ.

إرسال تعليق