صباح الزهيري
تعليق مهم لصديقة الصفحة الدائمة ( أم حنين ) : قول ابن باديس تحرير الاذهان مُقدم على تحرير الاوطان , اذا اردنا الاستقلال فعلينا تحرير انفسنا اولا .
وعبد الحميد بن باديس هو الإمام المُصْلِحُ المُجدِّدُ الشيخُ عبدُ الحميد بنُ محمَّد المصطفى بنِ المكِّي بنِ باديسَ القسنطينيُّ الجزائريُّ , رئيسُ جمعيةِ العُلَماءِ المسلمين بالجزائر, ورائدُ النهضةِ الفكرية والإصلاحية , والقدوةُ الروحيةُ لحربِ التحرير الجزائرية , ومقولته الشهيرة آنفا تعني أن تحرير عقول الناس من الاستعمار الثقافي والفكري يجب أن يسبق التحرير السياسي والجسدي للوطن , لأن العقلية المتحررة هي التي ستتمكن من بناء استقلال الوطن وتوطيده وحمايته من السيطرة الجديدة , كما طبقها الإمام في مقاومة الاستعمار الفرنسي للجزائر, والمقولة تعني أن تحقيق الاستقلال لا يقتصر على الجوانب الخارجية مثل تحرير الأرض من الاحتلال , بل يتطلب أيضاً تحرير الذات من الداخل , عبر تحرير العقول من التبعية والجمود الفكري وتحقيق التطور الاجتماعي والفكري والثقافي , الاستقلال الحقيقي هو عملية شاملة تبدأ بتحقيق الاستقلال الذاتي للفرد من خلال بناء الثقة بالنفس واتخاذ القرارات.
تحرير الذات الداخلية , أو تحرير العقل , يعني التحرر من الأفكار السلبية والموروثات الخاطئة والتفكير النقدي في المحيط , الذي يقود الى التنوير , هذا التحول الداخلي , أو التنوير الذي قصده ابن باديس , هو ما تؤكد عليه القيادات المعاصرة أيضاً , كما أكّد الرئيس المصري السيسي ,الحاجةَ إلى خطاب ديني مستنير , وفكرٍ رشيد , وكلمة مسؤولة , مشدداً على أن تجديد الخطاب الديني لا يكون إلا على أيدي دعاة مستنيرين , أغنياء بالعلم , واسعي الأفق , مدركين التحديات , أمناء على الدين والوطن , قادرين على تقديم حلول عمليةٍ للناس , تداوي مشكلاتهم , وتتصدى لتحدياتهم , بما يُحقق مقاصد الدين ويحفظ ثوابته العريقة . أن النتيجة المباشرة للأذهان غير المحررة , تنتج مجتمعات منشغلة بالغابرات أمام مجتمعات أخرى تعمل بالآنيات , والفرق شاسع بين الحالتين , فالأولى تتقهقر والثانية تتطور, الأولى تنظر إلى الأفق البعيد والثانية نظراتها لا تفارق أقدامها , الأولى تفكر تكنولوجيا والثانية همجيا , فكيف تصح المقارنة بين الثرى والثريا ؟ مجتمعات يطمرها التراب وأخرى تسير فوق السحاب , دول تترجم الوقت كالسيف إن لم تقطعه يقطعك , وأخرى تندحر في نقاط زمنية وتنكر دوران الأرض وتبدل الأحوال , فالوجود في عرفها نقطة خامدة جامدة تندحر فيها القرون وكأنها الثقب الأسود المتوحش الإفتراس , بلدان منشغلة بما لا يأمن من خوف ولا يطعم من جوع , وغيرها منكبة بصناعة الأمجاد ورسم خرائط الحياة الواعدة , فئويات , طائفيات , مذهبيات , عشائريات , مناطقيات , تحزبيات , وتصارعات بينية على الإنتماءات والهوية , ومن هالمال حمل اجمال , والدنيا وين والناس وين , شعوب ضد ذاتها , وسلّحها بالبنادق الأوتوماتيكية لتتقاتل وتردي بعضها , فهذه بطولاتها وإنجازاتها الأبية , وإنتصاراتها الغبية , لا تعترف بوطن ولا وطنية , وتستثمر في الإفقار والأمية , ثرية وحياتها رزية , فقر مدقع , ورشاش ومدفع , فالقتل والخطف وظيفة عبقرية , وتعبير عن الإيمان بالقضية , واللعنة على أصحاب الدعوات الطائفية , الخانسين في أوعية التبعية , فهل ذهبت فضاع الشعب والعرب , وتداعت نحو أمتنا النُكَب ؟
إن غياب التنوير الذي نادى به ابن باديس هو ما قاد مجتمعاتنا إلى حال التناقض الصارخ هذا, حيث يموت في بلادنا المثقفون العلمانيون التنويريون جماعة ابن باديس فقراء , ولا يتركون شيئا من متاع الدنيا , ويموت المشايخ والدعاة وفي أرصدتهم الملايين , وأبناؤهم في أرقى معاهد وجامعات الغرب , ولكن في النهاية نسمع أن العلمانيين ماديون تهمهم الدنيا , والدعاة يحرصون على الآخرة , ورغم أن اللعبة مكشوفة تماما منذ قرون , إلا أن الناس يفضلون الغفلة مع الطمأنينة المغشوشة , على اليقظة والوعي مع قلق السؤال , وفي قراءة في فكر فيلسوف تنويري : في فضاء تغلفه الظلمات الرمادية , حيث الأصوات تتشابه , والمعاني تتبدد في هواء ملوث بالأيديولوجيا , ينبثق صوت التنويري ككوكب مستقل المدار , لا يحاكي غير ضوء ذاته , ولا يتكئ إلا على وعي تشكل في محراب السؤال ونار المواجهة , إنه من ذلك الطراز النادر من المفكرين الذين لا يكتفون بإنتاج المعرفة , بل يعيشونها كمسؤولية , ويحملون وجع الواقع ويجعلون من القلم سلاحا ضد التحجر والانغلاق , ويبرز كصوت عقلاني جريء لا يهاب اقتحام المسكوت عنه , ولا يتردد في تفكيك البنى الراسخة , وكصوت مختلف , لا يخشى ارتياد المجهول , ولا يأنف من مقارعة السائد , واستطاع ان ينحت لنفسه مكانا في صميم الفكر العربي , لا من خلال التكرار أو التلقين , بل عبر خلخلة المفاهيم , وإعادة بناء الذات. رحم الله أبن باديس , فكلما آمنا أن الإنسان لا يكتمل إلا بفكر حر وقلب لا يخاف , كلما كتبنا بحرية , ورفضنا القيد .

إرسال تعليق