صباح الزهيري
أول المطر , وأخر الياسمين ,مضى أيلول صندوق الروح الخشبي , فيه عناقات مؤجلة , وعناقيد حب قديمة , أغانٍ , وبنفسج جاف , وعَتب , عَتب , عَتبْ , فدع الخريف يمارس سحره عليك كما يمارسه على الاشجار, ففي داخلك أيضا أوراق بائدة , ٱن اوان سقوطها , وفي الشّتوة الأُولى أتذكر بِكَ رائحة الأرضِ , وكنسمةٍ رقيقةٍ , يحملني إليكَ عطر أيلول , وبالمطرُ الأولُ تنتعشُ في قلبي يمامةَ الرّوحِ , مثل رزقة سنويّة بقايا حبّات القمح يجرّها النمل , في حين تتسكع حجلان الجبل بفرح تحت رشّات المطر, فتنضوي نقنقة الحجلان وصوت المطر صلاةٌ جهريةٌ . المطر الأول يغسل كلّ شيء عدا قلوب البشر , وللغياب وللضيوف , الحزن ظل ٌّ لا تُغيّبه الغيوم ُولا أفول الشمس ِ , لا يمضي اذا عاد المساءُ , وليس يتعبه الوقوف , لونٌ لأيلولَ القديمِ , ولا جديدَ , وها أنا زرقاءُ أغنيتي , وقُبّعتي ومعطفي الثقيلُ وما ذرفتُ من الحروف , والحزن طيرٌ لا يهاجر ُ في الفصولِ , ولا يكُفٌ عن الرفيف , ويبيض في قُرَنِ الفؤاد , فوق مائدة الطعامِ , وفي شبابيكٍ تُطلُّ إلى المدى , وعلى الرصيف .
عرفنا بعد ان سارت بنا سنين العمر , ان الخريف هو مرحلة في حياتنا وفيه تتساقط أوراقنا نحن بني البشر ايضاً , بعد أن كنا أشجاراً نظرة بشباب العمر , وعرفنا منه تساقط الأصحاب , وابتعاد من كان بالأمس في الشباب , مثل الأوراق الهالكة , الساقطة من أغصانها وفروعها الهالكة , بعد ان رحل عنا الكثيرين , واليوم ومع تلبد الغيوم في السماء وتساقط قطرات الماء من السماء . مع رائحة المطر وهي تمتزج بتراب الارض لينبعث منها رائحة طيبة تشرح الصدور وانا ارمي بخطواتي في حديقة المنزل , وبقربي ذلك النبات من النعناع الاخضر ليكمل بعطره رائحة الارض , ما اجمل الطبيعة وما اجمل خيراتها وما اجمل اجوائها عندما تريد اسعادنا بظروفِها الجوية , ما اجمل متغيرات المناخ عندما ينتهي الصيف وهو يودعنا برايته الحمراء الملتهبة والمستمدة قوتها من شعاع الشمس , ومع انخفاض درجات الحرارة وانتقالنا الى فصل الخريف الذي زادت من جماليته قطرات المطر وتلبد الغيوم في السماء. أزيز الحصاد يسرحُ ويمرحُ في الحقولِ السّمراء , والبزّاقةُ الصّغيرةُ تزحفُ بسلام على الأعشاب الطرّيّة , ترى أين ذهبت حصّادة القطن التي كانت تستفزّها بوقاحةٍ أسراب البطّ البري , وأقحوانة المرج تعانق النّور لأوْل مرّة ؟ تحت عمودِ الإنارةِ خيوط المطر تتساقط كالبلور, والزخّاتٌ المتتاليةٌ تجعل معطف الفزّاعة يبدو جديدًا ,وكلابُ الدار تبلُّ ريقها بحفنة مطر, وفي الانقوعة الصّغيرة , كنا أطفالا نلهوا بمرح , ونأخذ دشٌا جماعيٌا يفاجئنا المطر, والقلب تشحبُ فيه خشْخشةٌ , ويذبلُ إذا مر ّالخريف , ثمّ يهجره الحفيف .
وعلى الرصيف الحزن ذاكرةٌ مُعلقةٌ , أيلولُ عادَ وفيه ميعادٌ بلونٍ لن يفارقنا إذا مر ّالخريف , الحزن ظل ٌّ لا تُغيّبه الغيوم ُ, ولا أفول الشمس , لا يمضي اذا عاد المساءُ وليس يتعبه الوقوف, لونٌ لأيلولَ القديمِ , لا جديدَ , ها أنا زرقاءُ أغنيتي , وقُبّعتي , ومعطفي الثقيلُ , وما ذرفتُ من الحروف , لنرحب بكل رحابة صدر , وبكل بهجة وسرور بفصل الخريف , ونشكو له حرارة فصل الصيف القاسية , وتمنياتنا ان يكون فصل الشتاء مكمل لفصل الخريف بعيدا عن البرد القارص وليغرقنا فيضانات نحتاج اليها . في الخارج , ينزل المطر برفق , مثل يد لطيفة على النافذة , وتلعب معه إيقاعات الحياة , ويسمع كل شيء , همسات الغرباء , وصرير الكؤوس , وحفيف الصحف ,كل صوت ينسج في ذهنه , وبتهوفن يحلم بالسمفونيات , بالأوتار المرتفعة والنحاسيات الجريئة , كما يمكن لارتفاع مفاجئ أن يرفع معنويات القلب , كما يمكن لنغمة هادئة أن تجلب الدموع , كل رشفة من القهوة , وكل قضمة من الكعكة , هي نغمة في تأليفه الرائع , ومذاق الإلهام , وهناك فتاة صغيرة على الطاولة المجاورة ترسم في دفتر ملاحظاتها , وعيونها متسعتان من الدهشة , فيبتسم , لأنه يعرف سحر الإبداع , والشرارة التي تشتعل من لحظات بسيطة , يلتقط نظرتها , وفي هذا الاتصال العابر, يولد لحن جديد.

إرسال تعليق