مشاهدات
د. يحيى الكبيسي
بعد أكثر من 20 عاما على كتابة الدستور العراقي الدائم والاستفتاء عليه، لازلت أستعيد السؤال الذي سألني إياه الدكتور سامي زبيدة عام 2011 : هل العراق في حاجة إلى دستور؟ وأستطيع أن أجيب اليوم بكل ثقة بأن العراق لا يحتاج إلى دستور! وتصدق هذه الإجابة على العراق، وعلى كثير من دول العالم، على رأسها دول المنطقة، لماذا إذا نحتاج إلى دستور إذا كنا لا نحترمه؟ ولماذا نحتاج إلى دستور إذا كنا سمحنا لأنفسنا بالتلاعب به كما نشاء؟ ولماذا نحتاج إلى دستور إذا كان بامكاننا تعديله أو تغييره حسب رغبة الحاكم ومصلحته؟ ولماذا نحتاج إلى دستور إذا لم تكن هناك جهة ما قادرة على الدفاع عنه وإجبار الجميع على الالتزام به؟ ولماذا نحتاج إلى دستور إذا كان لدينا محكمة دستورية تعطيك قرارات ديليفري تبعا «للأوردر» الذي يصلها؟ بعد ثورة/ انقلاب 14 تموز 1958 في العراق، طلب عبد الكريم قاسم من المحامي حسين جميل كتابة دستور جديد، وبالفعل كتب الرجل الدستور في يوم واحد، وأعلن عنه رسميا يوم 27 تموز 1958. وقد تضمن هذا الدستور فقرة تقول :
بإسم الشعب نعلن سقوط القانون الأساسي العراقي وتعديلاته كافة،
والمقصود هنا دستور العام 1925!
وفي تحديد طبيعة نظام الحكم، تحدث عن رئاسة جمهورية يتولاها مجلس السيادة ويتألف من رئيس وعضوين . ومجلس وزراء يتولى السلطة التشريعية بتصديق مجلس السيادة، كما يتولى السلطة التنفيذية ! مع أن الجميع يعرف أن عبد الكريم قاسم احتكر السلطة بالكامل بعد ذلك، مع وجود هذا الدستور ساريا، ولم تعد قراراته في حاجة إلى تصديق مجلس السيادة! وبعد ثورة/ انقلاب 8 شباط في العام 1963، والانقلاب على الانقلاب في 18 تشرين الثاني من العام نفسه، صدر دستور مؤقت جديد في 10 أيار/ مايو 1964؛ وفيه تقرر أن الانقلاب الأخير جاء «إجابة إلى رغبة الشعب والقوات المسلحة»! كما تقرر أن يكون هناك مجلس أمة يمارس السلطة التشريعية، وتحدد شروطه بموجب «قانون يصدر بما لا يقل عن ستة أشهر قبل انتهاء فترة الانتقال». وقد حدد الدستور فترة الانتقال هذه بثلاث سنوات اعتبارا من تاريخ نفاذه. لكن قانون «مجلس الأمة» لم يشرع في موعده الدستوري (كان يفترض ان يصدر في نهاية العام 1966) ولم يُنتخب «مجلس امة» حتى بعد نهاية فترة الانتقال!
بعد ثورة/ انقلاب 17 تموز 1968، والانقلاب على الانقلاب بعد 13 يوما فقط، صدر دستور مؤقت جديد في أقل من شهرين، وتضمن الدستور الجديد فقرة نصت على أن «تشكل بقانون محكمة دستورية عليا تقوم بتفسير أحكام هذا الدستور والبت في دستورية القوانين وتفسير القوانين الإدارية والمالية والبت بمخالفة الأنظمة للقوانين الصادرة بمقتضاها ويكون قرارها ملزما». لكن هذه المحكمة لم تتشكل مطلقا وتضمن الدستور المؤقت لعام 1970 مادة تنص على أن «يكفل الدستور حرية الرأي والنشر والاجتماع والتظاهر وتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات وفق أغراض الدستور وفي حدود القانون. وتعمل الدولة على توفير الأسباب اللازمة لممارسة هذه الحريات التي تنسجم مع خط الثورة القومي التقدمي»، لكن جمهورية الخوف التي صنعها نظام البعث في المجال العام تتناقض بالمطلق مع هذه المادة! وتضمن الدستور نفسه مادة نصت على أن «يتمتع رئيس مجلس قيادة الثورة ونائبه والأعضاء بحصانة تامة ولا يجوز اتخاذ أي أجراء بحق أي منهم الا بأذن مسبق من المجلس»، ومنه هذا، استطاع رئيس المجلس أن يطيح بأربعة من أعضائه بقرار شخصي، بعد الإطاحة بأحمد حسن البكر، فضلا عن عضو سابق في هذا المجلس كان معتقلا من الأصل منذ عام 1973 ، فيما عرف بـ «مجزرة الرفاق» في قاعة الخلد (طبعا تشكلت محكمة خاصة ضمت سبعة من أعضاء مجلس قيادة الثورة وسُوِقَ للأمر على أن قرارات الإعدام والحبس هي من صلاحيات هذه اللجنة وأنها هي من اتخذتها)!
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، استقر نموذج ديمقراطي جاهز للاستهلاك خال من أي محتوى ديمقراطي حقيقي، وكان هناك صراع سياسي حقيقي حول الدستور الذي انتهى إلى مهزلة حقيقية ! فلم يكن لدى الأمريكيين أي خطة لكتابة دستور عراقي دائم، وفي رئاسة جلال الطالباني الدورية لمجلس الحكم، وقعت اتفاقية بتاريخ 15 تشرين الثاني 2003 لتشكيل إدارة انتقالية معينة تتولى السلطة في العراق لزمن غير محدد، لكن إصرار المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني على كتابة دستور من لجنة منتخبة، اضطر الجميع للتعاطي مع فكرة الدستور كضرورة لا بد منها ! وبالفعل ضُمّن قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي طرح في آذار 2004، آلية لكتابة الدستور عبر ممثلين منتخبين! وكالعادة لم يتم الالتزام بذلك، بسبب مقاطعة السنة العرب لانتخابات الجمعية الوطنية التي جرت في كانون الثاني 2005، مما اضطر الأمريكيين لإدخال شخصيات سنية «غير منتخبة» في لجنة كتابة الدستور، وكالعادة أيضا تواطأ الجميع على هذا الانتهاك لشرط السيد السيستاني! ولم يقتصر التواطؤ على الطبقة السياسية فقط، بل شمل أيضا الجمهور الذي صوت على نص للدستور وزع منه 5 ملايين نسخة، وهي في الأصل نسخ مختلفة عن النسخة الأخيرة للدستور العراقي؛ حيث إن القائمين على كتابة الدستور قاموا بإدخال خمسة تعديلات قبل ثلاثة أيام فقط من موعد الاستفتاء على الدستور والمقرر يوم 15 كانون الأول 2005، وكان الغرض من ذلك هو ضمان عدم تصويت السنة العرب برفضه! تضمن دستور 2005 أكثر من توقيت ملزم لم يلتزم به أحد! فقد نصت المادة 142 مثلا على تشكيل لجنة لتعديل الدستور تُقدم تقريرها خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر، وأن يتم الاستفتاء عليها بعد شهرين من موافقة مجلس النواب على تلك التعديلات، كما تضمن مادة أخرى تتحدث عن إجراء التطبيع والإحصاء والاستفتاء في المناطق المتنازع عليها لتحديد إرادة مواطنيها، على أن تنجز في مدة أقصاها نهاية عام 2007، واليوم بعد مرور 20 عاما لم تنفذ هاتان المادتان مطلقا! وما حدث بعد هذه الفوضى في كتابة الدستور وإقراره، كان أكثر عبثا حيث استمر التلاعب الفاضح بأحكام دستورية صريحة؛ إما من خلال قرارات مسيسة للمحكمة الاتحادية، أو من خلال تواطؤ سياسي جماعي على هذه الانتهاكات، أو من خلال تأويل الفاعلين السياسيين النصوص الدستورية تأويلا مفرطا يفقدها معناها، أو باستخدام وسائل القسر والقوة والنفوذ! لا أحد يحترم أحكام الدستور في العراق، لا سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية بكل مؤسساتها، ولا القوى السياسية بجميع صنوفها، ولا حتى المجتمع نفسه الذي يفترض أن يتمسك به، ويدافع عنه، لأنه الضامن الوحيد لحقوقه؛ فالطبقة السياسية العراقية تنظر الى الدستور بوصفه أداة للاستخدام السياسي فقط وفقا لعلاقات القوة والمصالح الخاصة! من هنا يصبح السؤال عن مدى حاجتنا إلى الدستور مشروعا؟

إرسال تعليق