مقامة محضرون

مشاهدات


صباح الزهيري


يمكن أن تُفهم الآية الكريمة : بسم الله الرحمن الرحيم 

{وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} يس (32)


على أنها تتكون من ست كلمات , حيث تكتمل الصورة والمعنى بالكلمة الأخيرة , فالكلمات الخمس الأولى:{وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} يس (32), تثير التساؤل وتترك المعنى ناقصًا , فهي توحي بأن هناك شيئًا ما سيحدث لكل شيء , وأنه سيتم جمعه لدينا في مكان ما , لكنها لا تُجيب عن السؤال :  ما الذي سيحدث له ؟ هنا يأتي دور الكلمة السادسة  محضرون , هذه الكلمة هي المفتاح الذي يُكمل المعنى ويُجيب على السؤال , حيث تُخبرنا أن هذا الجمع لكل شيء ليس عبثًا , بل هو لغرض الإحضار والحساب,  فالمعنى الكلي للآية لا يتضح إلا بعد إضافة كلمة محضرون , والتي تُحوِّل الجملة من مجرد إشارة إلى حدث مستقبلي , إلى تأكيد على حتمية الحساب والجزاء , من هنا يمكن ربط هذا التركيب والتكامل اللغوي بالمأساة العراقية وواقع مابعد 2003 , فالمأساة لم تكن مجرد أحداث متفرقة , بل كانت سلسلة من الأحداث المترابطة التي لم يكتمل معناها إلا بالنتائج التي نراها اليوم .


أن هذا المقامة ليس تفسيراً دينياً للآية , بل هو محاولة لإسقاط معناها المجازي على الواقع المعاصر , كطريقة للتأمل والتحليل , أذ يمكن أن تمثل الكلمات الخمس الأولى الأسباب والأحداث التي مهدت لما حدث : الغزو , تغيير النظام , الانقسامات الطائفية , الصراعات السياسية , والفساد , كل واحدة من هذه الأحداث لم تكن لتُظهر الصورة الكاملة وحدها , أما الكلمة السادسة  محضرون  فتمثل الحصيلة النهائية , أي الواقع المزري الذي نعيشه اليوم , هذا الواقع هو النتيجة النهائية والحتمية لكل تلك الأحداث , وهو الذي يوضح معنى كل ما سبق , وهكذا تصبح الكلمة الأخيرة في الآية , مثلها مثل الواقع الحالي في العراق , هي النقطة التي يكتمل عندها المعنى , والتي تُظهر أن كل الأفعال لها نتائج حتمية , حيث يمكن أن تُفهم الآية على أنها تتحدث عن حتمية الحساب والجزاء لكل البشر يوم القيامة , وأن جميع أعمالهم ستُعرض عليهم , وفي سياق العراق , يمكن النظر إلى المحضرون على أنهم هم الشعب العراقي بجميع مكوناته , الذين كانوا  محضرين  للمواجهة مع حقبة جديدة , وما تلاها من أحداث سياسية واجتماعية واقتصادية مؤلمة. ان التأويل الممكن للآية هو مجرد تشبيه أو استعارة فلسفية في سياق العراق , بأعتبار انها  تشير إلى أن كل شيء سيُحشر ويُعرض للحساب , وفي عراق ما بعد 2003 , فأن جملة {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} , يمكن أن تُفهم على أنها إشارة إلى جميع مكونات الشعب العراقي من مختلف الطوائف والأعراق الذين وجدوا أنفسهم جميعًا في بوتقة واحدة تحت ظروف سياسية واقتصادية جديدة , هذا الجميع  كان محضرًا لمواجهة التحديات الهائلة التي نشأت بعد تغيير النظام , وعبارة  لَّدَيْنَا مُحْضَرُون , يمكن أن تُفسر على أنها تشير إلى أن كل هذه المكونات الشعبية وجميع الأحداث التي وقعت , سواء كانت إيجابية أم سلبية , كانت محضرة أمام حكم التاريخ والزمن , هذا يعني أن كل الأفعال , والقرارات , والمعاناة , والصراعات التي مر بها الشعب العراقي كانت تحت مرأى ومسمع  القدر أو التاريخ . 


هذا التأويل يسمح بربط الآية بواقع العراق من خلال المسؤولية الجماعية ,  فالآية تتحدث عن أن الجميع سيُحشر, وهذا يتماشى مع فكرة أن الجميع يتحمل جزءًا من المسؤولية لما آل إليه الوضع في العراق , سواء بسبب المشاركة المباشرة في الأحداث أو بالصمت عنها , كما أن الآية تؤكد على حتمية النتائج  , وأن الحساب قادم لا محالة , فإن واقع العراق يُظهر أن كل عمل أو قرار اتُّخِذَ بعد عام 2003  كان له نتائج سواء كانت أمنية , أو اقتصادية , أو اجتماعية , وأن هذه النتائج هي حساب جماعي للجميع , سيقودنا الى العرض أمام التاريخ , بالأشارة إلى أن كل شيء سيُعرض , وهذا يمكن أن يُفسر بأن كل مأساة , وكل فساد , وكل تضحية , وكل فشل أو نجاح , سيكون معروضًا أمام الأجيال القادمة للتاريخ والحكم , بمعنى آخر , الأحداث لم تذهب سُدًى , بل هي جزء من سجل تاريخي سيُحاسَب عليه الجميع. بشكل عام , الربط بين الآية وواقع العراق يعتمد على فكرة أن كل أمة , مثل كل فرد , لها حسابها الخاص أمام قدرها وتاريخها , وأن جميع مكوناتها ستكون محضرة  لمواجهة نتائج أعمالها , ويمكن النظر إلى هذه العملية على أنها إحضار تاريخي  لكل ما حدث في الماضي , فبعد 2003 , تم  إحضار  كل الخلافات والانقسامات التاريخية , سواء كانت طائفية أو عرقية أو سياسية , إلى الساحة مرة أخرى , وكأن التاريخ نفسه قد أعاد عرض كل ما كان مدفوناً ومخفياً , ليواجهه الشعب العراقي بجميع مكوناته مرة واحدة , هذا الإحضار لم يكن مجرد صدفة , بل كان نتيجة طبيعية للظروف الجديدة التي أتاحت لهذه الانقسامات أن تظهر بقوة . معنى {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}  يحمل في طياته فكرة المصير المشترك,  فمهما كانت الانقسامات بين مكونات الشعب العراقي , فإنهم في النهاية يواجهون نفس المصير, سواء كانت معاناتهم من الفساد , أو من تردي الخدمات , أو من عدم الاستقرار الأمني , فإن هذه المشاكل لم تميز بين طائفة وأخرى , هذا الإحضار هو إشارة إلى أن الجميع على الرغم من اختلافاتهم , قد تم جمعهم في محنة واحدة , وكأن القدر يقول لهم : لقد تم إحضاركم جميعاً إلى هذه الساحة , وعليكم مواجهة مصيركم المشترك , والعمل معاً للخروج من هذه الأزمة , كما تتحدث الآية عن الحساب في يوم القيامة , مما يعطيها بعداً زمنياً , يمكن أن يُفسر هذا البُعد في سياق العراق على أنه عدالة مؤجلة , فكثير من ضحايا الفساد والعنف لم يحصلوا على العدالة بعد , وكأن هذه العدالة مؤجلة  إلى أن يتم  إحضار  كل الأطراف المتسببة في الأزمة للحساب , وهذا يعطي بارقة أمل بأن الحساب آتٍ لا محالة , حتى لو تأخر ,باختصار, يمكن أن يُنظر إلى الآية كعدسة فلسفية لتحليل واقع العراق , حيث يتم إحضار كل الأطراف , من شعب وحكومات وقوى خارجية , لمواجهة نتائج أعمالهم ومصيرهم المشترك , وهذا الربط 

تعليقات

أحدث أقدم