مشاهدات
نزار السامرائي
من يراقب أوضاع العراق التي نشأت بعد احتلال عام 2003، والهيمنة الإيرانية المطلقة على مقاديره، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، لا بد أن يمر على خاطره تساؤل مرير :
- أهذا هو العراق الذي تغنينا بأمجاده وبما يحمله من شموخ وكبرياء؟
- أهذا هو البلد الوحيد في العالم الذي تمكّن شعبه من تركيع إيران في ثلاث منازلات تاريخية؟
- أهذا هو الشعب الذي كان يشعر بالفخر وعلو الهمة كلما تمت مقارنته مع سكان الجار الشرقي؟
عند التعرف على الإجابة الصحيحة، سنجد أن بلاد فارس تختزن ثأراً تأريخيا معقدا ومركباً للعراق، ولا تفوّت فرصةً من دون أن تقنع نفسها أنها استردت حقا ضائعا، ويبدو أنها تشعر بسعادة غامرة عندما تمارس أفعالاً تُشعِرُ سكان بلاد فارس من خلالها، بالتفوق على العراق وإعادة الكرامة لهم والتحرر من عقد الهزيمة أمام العراقيين، ولهذا نراها تخطط بشكل منهجي، لإخراج مسرحيات تتلقفها الفضائيات التابعة لها، ولتعرض على فضائيات أخرى توظفها للسخرية من العراقيين لدرجة الهوان الذي أوصلتهم إيران إليه، وبشكل خاص عن قيام عراقيين مستأجرين، أو يحملون ولاءً لمركز التوجيه في قم وطهران، بغسل أرجلِ الزوار الإيرانيين الذين يأتون لزيارة المراقد الشيعية في مناسبات اخذت تتكاثر عن قصد، ولا يكتفون بذلك بل أن من يفعل ذلك عن طيب خاطر أو عن أجر مدفوع لتأدية هذا المشهد المقزز، يغسلون وجوههم بها وأخيرا يشربونها، تبركاً كما أقنعتهم مراجعهم وقياداتهم، بما يفرضه عليهم من شعور بالعبودية والضآلة أمام الزائر الإيراني.
بلا شك أن هذه الممارسات البائسة تثير شعورا بالقهر والدهشة، عند كل عراقي يعتز بكرامة شعبه وضحى من أجل سمّوها، ولكن هل تم غسل أدمغة العراقيين إلى الحد الذي استمرأوا فيه هذا الفعل الشائن؟ وكيف حصل ذلك خلال حقبة قصيرة من انتقال العلاقات بين البلدين من حروب طويلة، إلى حالة ثأرية بصيغ فرضها الاحتلالان عام 2003، ولا يمكن وضعها في خانة التكافؤ في العلاقات الثنائية، التي تحرص على سيادة الوطن وكرامة المواطن وضمان مصالحه، وحتى إذا ما وصل إلى حد الشعور بالتضاؤل أمام أي طرف خارجي، فلا بد للدولة من إعادة الأمور إلى نصابها بالتوعية بقيمة كرامة الإنسان الذي قال الله سبحانه في محكم كتابه العزيز،
"بسم الله الرحمن الرحيم : {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} صدق الله العظيم
أو بالتدخل القانوني لحماية الأمن القومي. فكيف حصل هذا التحول ولماذا؟ عبر التاريخ لم تكسب بلاد فارس "إيران"، معركة صغيرة أو كبيرة مع العراقيين، إلا بعد أن تعقِد تحالفاتٍ مع أطراف بعيدة عن المنطقة، تحمل من نوايا الشر المشترك بأرض العراق الغنية بعمق حضارة بلاد ما بين النهرين وتفوق الإنسان الذي عاش فوقه وأنتج للبشرية أعظم ما تفخر به، وأرضه الخصبة وأنهاره الغزيرة وثرواته المتعددة خزينا يفوق ما تختزنه الذاكرة الإيرانية. وعلى الرغم من التفوق السكاني وما يمنحه لإيران من قدرة حاسمة في تجنيد المزيد من القادرين على حمل السلاح واستبدال الجنود في جبهات القتال، وعلى الرغم من أن التضاريس الجغرافية تمنح بلاد فارس تفوقا ميدانيا لتحقيق نصر ما، إلا أن واقع الحال كان يقرأ شيئا مغايرا تماما مع تلك الحقائق، إذ كانت جيوش إيران تعود من جبهات الحرب مكسورة المعنويات منكّسة الرؤوس، لأن قادتها لم يمتلكوا القدرة على دراسة الوقائع على حقيقتها ولم يخرجوا باستنتاجات سليمة، حتى تأتي النهايات متطابقة مع البدايات الصحيحة، كانت وقائع التأريخ تحسم التساؤل، بأن فارس لم تكسب معركة واحدة مع العراق، لعوامل نفسية وتربوية واجتماعية تظافرت مع بعضها لتهيئة أجواء الهزيمة رسخت معنى التخاذل لديها.
ومن خلال هذه القراءة نستطيع التعرف عن الأسباب الجوهرية لردود الفعل الفارسية عبر منطق الإكراه مع السكان المحليين، نتيجة عجزهم عن مواجهة العراقيين في ساحات الحرب، وتحويل تلك الردود من المواجهة المباشرة في سوح القتال، إلى عمليات انتقام منهجية، في غرف خلفية تحمل من نزعة الانتقام الرخيص أكثر مما تحمل من القدرة على المواجهة مع العراقيين وجها لوجها وصدرا لصدر في منازلة عادلة، ومن هنا قد نجد تفسيراً للتواطؤ الذي حصل بين قورش واليهود ردا على ما يسمى بالسبي البابلي، أو بما حصل بعد معركة ذي قار من انتقام ممنهج من القبائل العراقية المحيطة بمدينة الحيرة عاصمة المناذرة، ففي مثل هذه التحالفات يتم تجميع القوى المتنافرة لتحقيق هدف مشترك ضد طرف ثالث. أما بعد معركة القادسية التي هزَم فيها العربُ المسلمون ، دولةَ الأكاسرة الساسانيين، في خلافة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، فقد أخذت المواجهة شكلا جديداً مختلفاً عن كل أشكال المواجهات السابقة بين العرب والفرس، ذلك أن البعد العقائدي الذي حمله العرب في هذه المعركة، حوَل مسار الحرب من مواجهات لأغراض دنيوية على الثروات ومناطق النفوذ وطرق التجارة، إلى هدفٍ سامٍ عميق يتخطى، كل الصور السابقة له، فبعد الهزيمة التي مُنيت بها الزرادشتية المجوسية، أمام قوة الإسلام الغالبة، وما حمله "دين العرب" كما يسميه الشاعر الفارسي مهيار الديلمي، ت 428 هـ، الذي يعكس في هذا الوصف ما تختزنه الذاكرة الجمعية للفرس تجاه الدين الجديد، الذي ينظر إليه كثير من المؤرخين الفرس على أنه دين مستورد من خارج المنظومة الفكرية والحضارية، أو أنه مفروض بقوة السيف على شعوب الأقاليم المفتوحة، يقول الديلمي في إحدى قصائده :
وضَممتُ َالمجد من أطرافِه
سؤددَ الفرسِ ودينَ العرب
وربما كانت هذه العصبية أكثر وضوحا في بلاد فارس من غيرها، لدى الأمم الأخرى التي دخلت الإسلام طواعية، فالقادسية الأولى قوضت أركان إمبراطورية مترامية الأطراف تمتلك موروثا حضاريا ودينياً تم نسجه من قبل منظومة متكاملة من الرجال المنتخبين من قبل بلاط كسرى. تلك ليست هزيمة عسكرية بين جيشين، بل كانت هزيمة متكاملة هزت الوجدان الفارسي بعمق، أن يرى رجالُ المنظومة الحاكمة في البلاد، من قادة جيش أو بلاط أو قادة دينيين، من يصفهم بالحفاة العراة الذين تمكنوا على ظهور الجمال من قهر أكبر قوة عسكرية في زمانها، وكانت تتقاسم النفوذ على شتى الأقاليم مع دولة الروم، وكأنها ثنائية تشبه حال العالم السائد الآن ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي يتمثل بوجود مركزي استقطاب دوليين هما الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، والكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق، وما ورثه النظام الدولي من توازن مفترض بين الولايات المتحدة وروسيا . ولما رأت فارس أنها هُزمت فعلا، وأنها ليست قادرة على تعديل موازين القوة في الميدان وبناء قوتها الذاتية ثانية، اتخذ قادتها الدينيون الذين أصيبت ديانتهم بثلمة غير قابلة للجبر، اتخذوا قرارا سريا وهو الانخراط في "دين العرب " والتظاهر بالتعمق فيه والحرص عليه بل والمزاودة على أهله في فهمهم لنصوصه وتفسيراتها الفقهية والشرعية، هنا كانت اللحظة الفاصلة التي قرروا فيها الانتقام المزدوج، من العراقيين الذين انطلقت من أرضهم جيوش الفتح ، ومن المسلمين الأوائل الذين حملوا لواء دين التسامح الإنساني ونشروه في أرجاء المعمورة، ومن العرب كأمةٍ تمكنت من إزاحة اللغة الفارسية من مكانها الذي احتلته بقوة السلطة لعدة قرون، ومن الإسلام كعقيدة سماوية، وذلك بصناعة وعاء قادر على تفقيس حركات زندقة وغلو ومروق عن الدين الإسلامي، ومن أجل ألا تفسر تلك الحركة بالعداء الجهري "لدين العرب"، فقد اتخذت واجهات فكرية حيناً، واجتماعية إصلاحية للنظام السياسي القائم حينذاك أحيان أخرى، فأخذ الغلو وغرس الأفكار الهدامة في فارس وما جاورها، وظيفة برع بها الفرس دون غيرهم من الأقوام التي دخلت الإسلام كخيار نابع عن قناعة يقينية بتفوق العنصر الفارسي على العرب خاصة، فكانت الشعوبية واحدة من أخطر ما واجه الدولة العباسية التي لم تكن عربية خالصة. لكن هذا الحكم ليس حكما مطلقا، بل هو نسبي مؤكد، فهناك رجال من بلاد فارس، تعلموا اللغة العربية وبرعوا في آدابها، وكذلك في فهم القرآن الكريم ومضى كثير منهم إلى تفسيره والتوسع في فهم الفقه والشريعة الإسلامية، وفي تدوين الحديث . وإن كنا لا نستطيع الجزم بأن هؤلاء جميعا ينحدرون من أصول فارسية، فبعد أن استوطنت قبائل عربية كثيرة في مختلف الأقاليم المفتوحة، وحمل أبناؤها ألقابا تنسب إلى مدن فارسية حتى ظن كثير من المؤرخين أنهم منحدرون من أصول فارسية، في حين أنهم ينحدرون من أصول عربية أو تركية أو كردية أو فارسية . ولما دار الزمن أكثر من دورته ، وزالت إمبراطوريات ودول عن خارطة الجغرافيا وعن الخارطة السياسية، وقامت على أنقاضها دول وممالك جديدة، وقامت على طرفي الحدود دولة فارس الجديدة أي الدولة الصفوية عام 1501م، وعلى الجانب الآخر من الحدود الدولة العثمانية وفيما بعد، دولة العراق الحديثة عام 1921 بعد انسلاخها عن الدولة العثمانية، ما كان بإمكان فارس أن تنسلخ عن خزينها السلبي تجاه العراق، إذ ظلت إيران "بلاد فارس "، تنظر إلى العراق كجزء من ممتلكات الإمبراطورية الساسانية، وعلى الرغم من أن تركيا التي ورثت التركة العثمانية اعترفت بقيام الدولة العراقية الحديثة اعترافا رسميًا بالعراق كدولة مستقلة في 15 مارس 1927، وذلك بموجب اتفاقية أنقرة التي تم توقيعها في 5 أيار/مايو 1926، حيث تنازلت تركيا عن أي ادعاءات بولاية الموصل للعراق ورسّمت الحدود بين البلدين بعد وقت قصير من قيامها، إلا أن فارس حافظت على قناعاتها القديمة ولم تستوعب دروس الماضي والحاضر، بأنها فقدت آخر مرتكزاتها كقوة عظمى في الشرق على الأقل، فأخرت اعترافها بالدولة العراقية في البداية، لم تعترف إيران بالمملكة العراقية إلا عام 1928 بشروط مجحفة.

إرسال تعليق