مقامة الرسيس

مشاهدات

 


صباح الزهيري


يقرأ يوسف عمر مقامًا من قصيدة الحافظ إبراهيم:

لَقَد نَصَلَ الدُجى فَمَتى تَنامُ 

أَهَمٌّ ذادَ نَومَكَ أَم هُيامُ  , 

غَفا المَحزونُ وَالشاكي وَأَغفى 

أَخو البَلوى وَنامَ المُستَهامُ , 

وَأَنتَ تُقَلِّبُ الكَفَّينِ آناً 

وَآوِنَةً يُقَلِّبُكَ السَقامُ 


إلى أن يصل إلى البيت : 

بِرَبِّكَ هَل رَجَعتَ إِلى رَسيسٍ 

مِنَ الذِكرى وَهَل رَجَعَ الغَرامُ؟ . 


هنا توقفت عند كلمة رسيس , فوجدت أنها كلمة عربية ذات معانٍ متعددة , أصلها عميق ومرتبط بتاريخ اللغة العربية وشعرها القديم.


الرسيس: من البئر إلى القلب , في اللغة , كلمة الرسيس مشتقة من الجذر ر. س. س , وأكثر معاني هذا الجذر تحيل على الدفن والطمر وإخفاء شيء تحت الأرض , فيقال : رسَّ الميت أي دفنه , ورسَّ البئر أي حفرها, ومن هنا جاءت تسمية  الرس على البئر التي لم تُبنَ جدرانها بعد , وفي القرآن الكريم , ورد هذا المعنى في قوله تعالى في سورة ق: ﴿( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ )﴾ ,


وقد اختلف المفسرون في معنى: أصحاب الرس فقال بعضهم إنهم قوم دفنوا نبيهم في بئر, أي رسّوه حياً , بينما قال آخرون إنهم أصحاب الأخدود الذين حفروا خندقاً لدفن المؤمنين أحياء فيه, وهذا المعنى العميق للدفن والإخفاء هو ما يربط بين معاني الكلمة المختلفة فالرسيس هو كل ما أُخفي على كل مطلع , فلا يعلم أمره إلا ثلاثة : من دفنه , ومن سيجده , وإلهه . انطلاقاً من معنى الدفن والإخفاء، تطورت معاني الكلمة لتصف ما يتبقى من أثر الشيء أو بقيته . فكما يدفن الشيء في الأرض , يبقى أثره في الروح , فرسيس الحمى:  هو أول مسّ الحمى وبدؤها الذي يؤذن بقدومها , ورسيس الحزن: هو ما يتبقى من أثره الخفي في النفس , اما رسيس الهوى:  هو بقية الحب وأثره في القلب , وهو ما يخفيه العاشق ولا يعلم به أحد إلا هو , وهذا المعنى الأخير هو ما ذكره الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني في قوله : 


إِذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ 

رَسِيسُ الهَوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبرَحُ , 


أي أن آثار حب  ميّة  في نفسه لا تزول , حتى وإن ابتعدت عن ناظريه , كما أن الرسيس يشير أيضاً إلى الشيء الثابت الذي لزم مكانه , والشخص الفطن العاقل , والعلامة التي توضع على الشيء , وفي كل هذه المعاني , يبقى المعنى الأصيل للكلمة هو ما كان خفياً أو مدفوناً. لم يقتصر استخدام الكلمة على المعنى المجازي فقط , بل ظهرت في الشعر الجاهلي كإسم لمكان , كما في معلقة زهير بن أبي سلمى : 


بَكَرْنَ بُكُورًا واسْتَحَرْنَ بِسُحْــــرَةٍ 

فَهُنَّ وَوادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَــمِ   


حيث يصف الشاعر الإبل التي لا تضل طريقها إلى وادي الرس , وكأنها يد تتجه مباشرة إلى الفم , ولِمَنْ طَلَلٌ كَالوَحْيِ عافَ مَنازِلُه عَفَا الرَّسُّ مِنها فَالرَّسِيسُ فَعَاقِلُه : هنا يصف زهير بقايا الديار, ويذكر الرس والرسيس كأماكن متعاقبة تظهر وتختفي , وكأنها تصوير سينمائي لآثار الديار التي غارت في الأرض . الخلاصة إن الرسيس في كل معانيه هو ذلك الأثر الخفي الذي يظل قائماً وإن اختفى , سواء كان حباً مدفوناً في القلب , أو مرضاً كامناً في الجسم , أو أثراً لحضارة دُفنت في الأرض , هو ذلك الشعور الدفين الذي لا يزول , كبقية البئر التي حُفرت عميقاً , أو كبقية الحب الذي ظل راسخاً في القلب , فرسيس الهوى , هو كرسيس الماء غير أن ماءه تبخّر وبقيت آثاره تتخفى. 


تعليقات

أحدث أقدم