خواطر من العمل الدبلوماسي : العميد الركن هاشم عبد الجبار

مشاهدات



د. ضرغام الدباغ


في بداية عملي في سفارة الجمهورية العراقية في برلين/ جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حزيران / 1975، كمستشار في السفرة / الشخص الثاني . حدث أن نقل القنصل في السفارة إلى دولة أخرى، ثم لقلة عدد الموظفين، قمت عندها لفترة وجيزة بمهام القنصلية أيضاً، إلى جانب عملي الأساسي كمستشار في سفارة الجمهورية العراقية في برلين / جهورية ألمانيا الديمقراطية، بسبب الشواغر في الملاك، ومن بين مهام القنصل قيامه باصدار الوكالات وتسجيل الولادات للعراقيين، وتصديق وثائقهم، وتجديد وتمديد جوازات السفر، للمواطنين العراقيين، ولم يكونوا في تلك الأيام بأعداد هائلة كما هي عليه اليوم ، وحتى مع إضافة برلين بشطرها الغربي التابعة لجمهورية ألمانيا الغربية، وتسهيلاُ لأمور المواطنين كنا نتعامل معهم في السفارة ، ولم تكن أعدادهم كبيرة، ربما بضعة مئات فقط.


وذات يوم دخلت عليّ السكرتيرة الألمانية (في النصف الثاني من عام 1975)، تخبرني أن مواطناً عراقياً يريد تجديد جواز سفره، وأعطتني الاستمارات، ولما قرأت الأسم وإذا به : هاشم عبد الجبار وهو ينتظر في الاستعلامات كأي مراجع ، فقلت لها فوراً:


فليتفضل عندي، فهذا قائد في سابق في جيشنا . فطلبت منها أن تدخله إلى مكتبي ريثما ننجز جواز سفره احتراماً وتقديراً له. وعندما دخل عليّ كان متوجسا بعض الشيء ، نهضت من الكرسي تقديراً واحتراماً لسنه ورتبته، وصافحته ورحبت به . وطلبت له فنجاناً من القهوة . وفي فترة إعداد الجواز علمت أنه يسكن في مدينة بوتسدام القريبة من برلين (40 ـ 45 كم جنوب برلين) أعزب ولم يتزوج . وبعد دقائق أرتاح من طريقة تعاملي معه، وأنا أظهر له الاحترام، فهو على كل حال كان قائد إحدى القطعات المهمة في جيشنا العراقي (آمر اللواء العشرين مشاة) بصرف النظر عن الأحداث السياسية التي رافقت أسمه وتأريخه العسكري . فتلك أحداث مضت، والرجل في شيخوخته، وهو إنسان وطني ومعادِ للأستعمار، ومحب لوطنه العراق وهذه أهم الاعتبارات.


وعندما شعر بالراحة التامة صار يحدثني عن تأريخه العسكري، وإنه يعرف معظم القادة العسكريين العراقيين وخاصة الذي عملوا في خلايا الضباط الأحرار، ولم يظهر عاطفة خاصة تجاه الفريق الركن عبد الكريم قاسم، وملاحظاته عنه لم تكن إيجابية، ولكنها ليست سلبية، اكتفى بالمرور السريع، وهي إشارة إلى عدم رضاه التام . في نفس الوقت أبدى ملاحظات سلبية بحق الرئيس المشير الركن عبد السلام محمد عارف , وعندما أتمننا اصدرا جواز السفر سلمناه إياه بكل احترام ، ورجوته أن يزورني كلما تردد إلى برلين، وقد فعل ذلك بعد فترة وجيزة، إذ قام بزيارتي للمرة الثانية، وقمت تجاهه بكل الاحترام الذي يستحقه، إلا أني لاحظت بأنه كان متعباً(صحياً) وأبديت استعدادي لأي خدمة يطلبها، من السفارة أو مني شخصياً. وبعد فترة قصيرة، ربما لم تتعدى بضعة أشهر، جاءت سكرتيرتي لتخبرني أن هناك سيدة ألمانية تطلب مقابلتي، وهي صديقة العميد الركن هاشم عبد الجبار وقد توفي قبل أيام قليلة فحسب. وعندما دخلت علىّ قدرت أنها تبلغ حوالي الستين من العمر، والحزن يكسو وجهها وملامحها وثيابها، واستقبلتها بود واحترام، وطلبت لها الضيافة من القهوة . وعرفتني بنفسها أنها صديقة المرحوم هاشم عبد الجبار، وأنه كان يسكن في بيتها، ورغم معرفتها بحالته الصحية السيئة، فوجئت بوفاته، إذ فارق الحياة وهو في ترامواي المدينة (وليس كما قرأت مؤخراً). وقالت لي أنه كان ممتناً جداً من تعاملي معه، وطلب منها أن تراجعني في حال حاجتها لشيء ، فأكدت لها ذلك .


وهنا أخرجت بعض النقود(قليلة)، من العملات الألمانية والعملة الصعبة، وقالت أنها كانت بحوزته وهي تريد إعادتها، فقلت لها أن بوسعها الاحتفاظ بها، ولكنها رفضت بصورة قاطعة، ولكنها، (ولن أنسى ذلك أبداً من الناحية الإنسانية) نظرت إلى بعيون يترقرق الدمع فيها : ولكن يا سيدي المستشار أريد منك شيئاً واحداً فقط، وإذا رفضت ذلك فإني سوف أتفهمه بدقة، أعلم أن هاشماً كان قائداً في جيشكم وليس ملكي أنا، فأيدت قولها نعم أن هاشم عبد الجبار كان أحد قادة جيشنا الوطني، وأنا أحترمه وأقدره كثيراً، أخرجت صورة من حقيبة يدها، وإذا بها صورة للعميد الركن هاشم عبد الجبار قد ألتقطها ربما في ستوديو بابل بقيافته العسكرية الأنيقة التامة وهو يضع أوسمته على صدره ويعتمر السدارة العسكرية، قالت لي ودموعها تجري على وجهها، أتسمح لي بالاحتفاظ بهذه الصورة ....؟ إنها الشيء الوحيد الذي بقي لي من هاشم .. وأمام هذا الوفاء الرائع لم يكن لي سوى أن أوافق على طلبها، وأكدت عليها أن تراجعني إن كانت بحاجة إلى شيء، إلا أن السيدة غادرت بأحترام وشيعتها إلى باب السفارة تقديراً لوفاءها لضابط عراقي هو أحد قادة جيشنا الوطني.

تعليقات

أحدث أقدم