في الثامن من آب… تتكثّف الذكرى في الروح كما يتكثّف الضوء في آخر النفق.

مشاهدات


بقلم رملة عبد المنعم البياتي 


ليس يومًا عاديًا في الذاكرة…08/08/1988 هو أكثر من تاريخ… هو ندبة ناعمة على قلب وطن وخيط نورٍ يتسلل من نافذة الوجع ليخبرنا أننا ما زلنا أحياء. في هذا اليوم توقفت البنادق خفت صوت المدافع وسُمع لأول مرة همس القلب بعد سنوات من الضجيج. انتهت حرب دامت ثماني سنوات لم تُبقِ حجرًا في مكانه ولا قلبًا على حاله. حربٌ عبرت من الأجساد إلى الأرواح ومن الجبهات إلى البيوت… حتى أولئك الذين لم يذهبوا إلى الميدان كانت الحرب تسكنهم .


في كل بيت هناك حكاية .

حكاية مفقود لم يعد أو شهيد لم يُودَّع أو عائدٍ تغيّرت ملامحه لكنه ما زال يُقبّل تراب الباب كل صباح… نحن جزء من هذه الحكايات حتى ونحن لم نقاتل لصغر سننا… لم نحمل البندقية لكننا حملنا الخيال . رسمنا أبطالنا في دفاتر المدرسة وعلّقنا صورهم على جدران الذاكرة ولونّا نياشينهم بأقلام الشمع كما لو أننا نقاتل معهم نحيا معهم ونكبر على وقع خطواتهم .


كبرنا ونحن نحفظ أنشودة :

“إحنا مشينه للحرب… عاشق يدافع من أجل محبوبته.”

"هذا العراقي من يحب ..يفنى ولا عايل يمس محبوبته "


لم تكن مجرد كلمات… كانت صورة حيّة. كنّا نراهم عشّاقًا يدافعون عن بغداد كما يدافع الشاعر عن قصيدته كما يدافع العاشق عن وجه حبيبته امرأة تُدعى بغداد بين الحشود وأمٌ اسمها العراق


يدافع بكل مافي القلب من رجفة

بكل مافي العين من دمع

بكل مافي الروح من شوق ٍوولاء…


حتى نحن ….الذين لم نمشِ في الحرب مشينا في ظلّهم. مشينا على خطاهم صغارًا نحمل دفاتر المدرسة ونرسم وجه بغداد بالطبشور ونكتب تحتها: “سنعود وسنبنيها من جديد”. كأننا كنا نُكمِل حكايتهم … بحروفٍ صغيرة بخيالٍ كبير وبحبّ لم يعرف حدودًا. كلّ خطوة في الحرب كانت نبضة وكلّ طلقة كانت صرخة حبّ وكلّ جندي كان يضع حياته على كفّه ويضع اسم العراق على الكفّ الأخرى… ويختار العراق، دون تردد…. هكذا كانوا… وهكذا كنّا. حتى من لم يكن في ساحة القتال كان في ساحة الذاكرة.


نحمل الحرب فينا

في الحكايات

في الاحلام

في الأناشيد


في نظرات أمهاتنا حين يعدن من المقبرة وفي ابتسامات الآباء التي تخبّئ وجعًا لا يُقال.


وهكذا… حين نقف اليوم على عتبة هذه الذكرى لا نبكي فقط. بل نضع أيدينا على قلوبنا ونقول: نحن أبناء هذا الوطن…كبرنا على حبه وعشنا حكاياته وكتبناها بطريقتنا : بالأقلام بالأحلام بالدموع وبكل هذا الحنين الذي لا يزول.


هذا الوطن، لم يكن يومًا مجرد أرض

بل كان طفولتنا

ذكرياتنا

قصص النوم وأحلامنا الأولى…

نحن جيلٌ لم يقاتل لكنه ما زال يحفظ شكل الخنادق وصوت الغياب

سلامٌ على من مضوا

وسلامٌ على من بقوا

وسلامٌ على بغداد… التي في كل ذكرى تولد من جديد فينا.

مودتي ….

تعليقات

أحدث أقدم