مقامة المسكون

مشاهدات

صباح  الزهيري


في زاويا الولاية المنسية , غالباً ما يذوب الحاضر في ذاكرة الأزقة العتيقة , ففي كل مكانٍ تجد أثراً يروي آلاف الحكايا عن أولاءك الذين قادتهم الخطى للسير في طرقاتها دون ان يعلموا شيئاً عن النهايات التي تنتظرهم , بعضهم ترك ذاكرة المدينة تتحدث عنه , والبعض الآخر حملت أفواه ساكنيها أخباره في المجالس والمقاهي , والتي أرتادها لسماع ما يتناقله الناس من تلك الأخبار , ها أنا انصت الى نهايات دور التسليم لمقام الخلوتي ( الجهاركاه ) الذي يقرأه المتصوفة , نغم يسمى ( الركبانية ) , وعلى درجة القرار المنخفض , يكاد المؤدي أن يكلم نفسه وهو يردد


أرد آخذك وأنهزم وأسكن بلاد الروم ,

مالوم منك يابعد رويحتي مالوم ,


ذلك هو عتب العاشق للمعشوق , وتلك هي الومضة التي تُحرر في قفص الكلمات , هذه الومضة القصيرة , كضوء في ليل طويل , تختزل عالماً من الدلالات في حيز ضيق من الكلمات . ما زلت أغازل الشغف القديم للغة , لعلّي أستنشق من بين حروفها ظلّاً من ألأحلام الضائعة , فليست اللعبة أن تلامس ما تريد وجهًا لوجه , ولا أن تقف أمام المرآة منتظرًا أن تردّ لك الغياب بصورة , فأنت هناك في البعيد , تمارس طقوسك بصمت كما لو أنك تعانق الضباب برجاءٍ أن يثمر وجهًا في أقصى الأفق , لعلّ في الكلامِ مشقّة لا تحتملها النفوس , ولا تألفها الأرواح , لعلّ فيه خدشًا للحُب , والكرامة , والإباء , لما تعاتبنا غلب علينا الفضول , وربما الشغف , وربما لا , كلُّ ذلك كان بلا كلمات , وحين حان وقتُ الكلام , صمتنا , كأنّه لم يُعجبنا الأمر , انتهت الحكاية , فعدنا إلى الصمت ,صمتًا , كما بدأنا , وكما نستحق.


في لحظة لا احد يستطع تفسيرها , فلا أحد يرى المزاج حين يقسو ولا أحد يسمعه حين يهمس , هو الذي يقرّر متى أكون أنا ومتى أكون ظلي ,

يا سلمى ,

يا سيّدةَ الشعرِ والنَّبضِ ووهجَ الحروفِ بعينِ الغضبْ ,

نسجتِ الوجعَ على ضوءِ روحٍ تُعانقُ في الأرضِ مجدَ الحَطَبْ ,

أنا لستُ غيرَ حروفٍ تهادتْ على شرفةِ الوجعِ المُلتَهِبْ ,

أنا ظلُّ محب يمرُّ الحنينُ بأوردتي ,

ويعودُ يَنسكِبْ ,

أنا نفْسُ سالكةٌ في الغيابِ تُرى حين تُفنى

, وتخفى إذا اقتربتْ

, أيا سلمى ,

والعشقُ مذهبي وفي الحبِّ وحدهُ قد عرفتُ النّسَبْ ,


وعندما تكون الكلمات بسيطة , لا تسأل كثيرا , لا تبوح بما يفوق حاجتها , لكن الكلمات تترك في حديثها فراغات ذكية , كأنها تدعوه لاكتشافها دون أن تعطيه خريطة.


كتب أنطون تشيخوف في رواية السيدة صاحبة الكلب :

هناك حب لا يُنسى , يبقى متجذرًا في القلب حتى بعد أن يمضي كل شيء , تظن أنك تجاوزته , أنك تحررت منه , ثم فجأة , في لحظة عابرة , تسمع صوتًا يشبه صوته , أو تلمح شخصًا يحمل ملامحه , فترتجف روحك وكأنك التقيته من جديد , لكنك تعلم , في أعماقك , أن ما ضاع لا يعود , وأن بعض المشاعر تبقى حبيسة القلب , لا تبوح بها ولا تموت أبدًا , إنها تظل هناك , تنبض في صمت , كجمر تحت الرماد , تنتظر نسمة واحدة لتشتعل من جديد , فهل الحب الحقيقي هو الذي ينتهي , أم ذاك الذي يبقى , حتى لو لم يعد له وجود؟ .


يقول ميشال زيفاكو :

الحب لا يعرف الألقاب ولا يخضع للتراتيب إنه تمرّد القلب على قوانين العالم , عندما قالت له غاضبة :

ﺳﺄﻗﺘﻠﻚ ﺇﻥ ﻋﺮﻓﺖ ﺃﻧﺜﻰ ﻏﻴﺮﻱ ,

قال : الميت لا يموت الا مرّة وأحدة , فكيف تقتلين من مات فيكي عشقاً ؟


هل سمعتم عن غزل الفقهاء :

كان عروة بن أُذينةَ زاهِدًا ورعٍا , وكثيرُ علم وفقيه , ومَعَ ذلكَ كَانَ رقيق الغزل كثيره , مِن جمِيل مَا قالْ :

إذا وجَدْتُ أُوارَ الحبِّ في كبدي أقبلتُ نحو سقاء القوم أبتردُ , هبني بَرَدتُ ببرد الماءِ ظاهرَهُ فمن لِنَار ٍعلى الأحشاء تَتَّقِدُ؟ ,


الحب ليس في العثور على شخص تعيش معه , بل في العثور على شخص لا يمكنك تخيل الحياة دونه , لا تقع في الحُب إلا مع شخص يجنّ إن تخللت أصابعك بين أصابع غيره , يسأل عن أسباب الخدوش في أطرافك ويراها بمثابة علامات لأيام مرّت على قلبك , يلاحظ أبسط تفاصيلك تلك التي قد تظن أنها غير مهمة , لكنه يراها كل شيء,يعانقك عناق المكتفي بك عن جميع ما في الكون .


الْحبُّ مرضٌ خطيرٌ لَا يُصابُ بهِ إلَّا مَنْ فِي قلْبِهِ قبسٌ منْ نورٍ , وفي دعْوةُ الْحبِّ :

اللَّهْ يَعْطِيكْ مَرْضْ الْقَيْسْ ,

سمعْتُها تُكرارَا مراراً , دعْوةٌ غيْرُ مُسْتجابةٍ , لأنَّ كفّارَهَا كُثْرٌ, دعونا نأتي إلى الحب , ذاك الكائن الذي يتسلل إلينا من خارج المنطق , ويعطّل فينا أدوات التحليل , هو الفوضى الوحيدة التي يتساوى فيها الأميّ والعالِم , لا عجزًا فيهم , بل لأن المنطق لا حاجة له هناك , وانظر إلى لعبة العيون , حين يصنع الوهم ابتسامة , وتكون هناك خشية من الاقتراب كثيراً , فالقرب يكشف العيوب , والكشف يجلب الخذلان , وخشية من منح الثقة مرة أخرى , ولكن لابد من تجاوز هذا الخوف معه , والسَّهْمُ الذي اخْتَرَقَ القَلب لَمْ يُدْمِهِ , لَقَدْ مَلَأَهُ عِشْقًا , يريد ان يضمه كما يَضُمُّ شاعرٌ عَجُزَ بَيتٍ إلى صَدْرِهِ , فالحُبُّ هُوَ أنْ يَكُونَ قَلْبُ الحَبيب خَرِيطَةَ الكَوْنِ , كالعِطْرِ مُدْهِش في حُضُورِه , هَشًّا في التلاشِي .


مسكون بالحب تعني :
possessed by love أو haunted by love باللغة الإنجليزية , يشير إلى الشعور القوي والمستمر بالحب , أو قد يكون تعبيرًا مجازيًا عن التأثير القوي للحب على الشخص , وفي الأدب , قد يشير مسكون بالحب إلى الشعور العميق والمتواصل بالحب , حيث يكون الشخص مغمورًا بمشاعر الحب لدرجة أنها تسيطر على تفكيره وسلوكه

تعليقات

أحدث أقدم