هددت الولايات المتحدة برسالة شديدة اللهجة نقلت إلى الحكومة العراقية على خلفية محاولة تمرير قانون الحشد الشعبي لغرض تداوله ثم إقراره . واعتبرت واشنطن إقرار هذا القانون بأي وسيلة أو عناوين يعد خطوة عدائية لمصالح أمريكا، قد يؤدي إلى فرض عقوبات اقتصادية شاملة على العراق . الخارجية الأمريكية هددت، وفقاً لتقارير صحفية بإجراء تحقيقات في خلفيات السياسيين العراقيين الذين يدعمون مشروع القانون، واحتمال وقف الدعم والمساعدات المخصصة للقوات الأمنية العراقية ، إضافة إلى عقوبات على صادرات النفط العراقية، وهو ما قد ينعكس سلباً وبشكل خطير على الاقتصاد العراقي .هذه الأجواء، ووسط إصرار بعض الكتل السياسية المؤيدة لسن قانون الحشد الشعبي، تغيب غالبية النواب الكرد والسنّة، إلى جانب جزء من النواب الشيعة، عن جلسة مجلس النواب، وهو ما حال دون اكتمال النصاب القانوني اللازم لتمرير القانون . كل تعقيدات هذا المشهد وعمليات الشد والجذب بين القوى المحلية العراقية والضغوط مع التهديدات الأمريكية تضع حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أمام مفترق طرق محرج عناوينه “دمج هذه الجماعات في مؤسسات الدولة” أو “تفكيكها وتجريدها من السلاح“. الحشد الشعبي في العراق الذي تأسس بموجب الفتوى “الجهادية” التي أطلقها المرجع الشيعي علي السيستاني لمواجهة مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” الذين سيطروا على محافظات نينوى، صلاح الدين، الأنبار وديالى وصولاً إلى شمال بغداد، في مارس-آذار عام 2014.
ثم تأكيد حضورهم رسميا عبر إقرار قانون باسم ؛ “هيئة الحشد الشعبي” في نهاية نوفمبر-تشرين الثاني عام 2016 من قبل مجلس النواب العراقي ليكتسب الحشد صفة قانونية وشرعية كجزء من القوات المسلحة العراقية ترتبط مباشرة برئيس مجلس الوزراء . ومع بدء أولى مساهمات قوات الحشد الشعبي في الاشتباكات في مدينة الفلوجة بمحافظة الأنبار بجانب القوات الحكومية ضد تنظيم داعش الإرهابي، بدأت ملامح ممارسات طائفية في التعامل مع أهالي هذه المدينة، سرعان ما تحولت إلى ممارسات ممنهجة ألصقت بقوات الحشد سمعة سيئة من خلال إطلاق يدها دون محاسبة من قبل حكومة نوري المالكي، حتى أسست لنفسها خطاً موازيا للجيش العراقي، وهو أمر شجعت عليه قيادات عراقية كانت وربما ما زالت تلوح بشعارات وعقد طائفية. هذه السلوكيات تم انتقادها من قبل الحكومة اللاحقة حيث انتقد رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي بشدة “تغّول” قوات الحشد الشعبي في المجتمع العراقي وتوسعها في مناطق ومحافظات لا يوجد فيها تنظيم “داعش”. في حقيقة الأمر لم ينتقد العبادي ميليشيا الحشد الشعبي نتيجة “صحوة” مفاجئة، بل هي نتيجة ضغوط دولية وعراقية شعبية كشفت حجوم الجرائم التي ترتكبها هذه القوات كعمليات القتل الجماعي والترهيب والإخفاء القسري والاستيلاء على ممتلكات عامة ومنازل خاصة في مدن كان تنظيم “داعش” يحتلها ومدن أخرى لم يدخلها التنظيم الإرهابي خوفاً من تهديدات “داعش” ومنهم عدد غير قليل من أبناء المكون المسيحي العراقي الأصيل . بين سنوات محاربة تنظيم الدولة “داعش” حتى وقتنا الحالي مرّت هيئة الحشد الشعبي بمتغيرات كثيرة لكنها حافظت على الركن الأساس من سر تشكيلها واستمرارها بالرغم من انتهاء الأسباب التي دعت لتشكيله، ولعل ميليشيا الحشد تمكنت، وبغياب قدرة الدولة، من بسط نفوذها وهيمنتها على المناطق التي انتشرت فيها خلال وبعد انتهاء المعارك مع تنظيم “داعش” حتى الآن ، مارس قادتها ومقاتلوها سياسات بعضها يستهدف تغييراً ديمغرافيا والآخر التحكم بمقدرات هذه المحافظات وحرية سكانها ، من هنا باتت الآراء مختلفة تجاه الحشد ؛ بين منتقد ومرحب ، فبات استمراره بالعمل وتمتعه بالكثير من الاستقلالية عن قرارات القائد العام للقوات المسلحة إلا إذا تماشت ومنهجية قيادات الحشد الاعتبارية وارتباط ذلك بمنهاج عمل إيران في العراق وبعض دول الإقليم ، وهو ما فتح بدوره أعين الرقيب الأمريكي ومتابعته لنمو وأعداد وتسليح فصائل وميليشيات الحشد .
في ظل إدارة الدولة العراقية من قبل الإطار التنسيقي ممثلاً برئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني ، وتحت الضغط الأمريكي الناعم ، بدايةً، حاول الرجل تحسين صورة الحشد والدفاع عنه تجاه المنتقدين له أمريكيا وعربيا وحتى محليا ، وركز على كونه جزء رسمي من القوات المسلحة العراقية له مالها وعليه ما عليها ، لكن مساعي السوداني لم تقنع أحداً لا من خارج العراق ولا من داخله ، وبدأت الأسئلة تبرز بوضوح عن المكانة الحقيقية للحشد الشعبي ليس في القوات المسلحة وحسب بل في كل أركان الدولة ومكنونات قوتها ، وبدأ العراقيون يسمعون “الجيش الموازي” للجيش العرقي وأيضاً بالتمثيل السياسي للحشد في مجلس النواب العراقي ، والأهم علاقة قادة أبرز ميلشياته بالحرس الثوري الإيراني معتمداً على الغطاء العراقي الممثل بقادة الإطار التنسيقي الحاكم . محلياً، هيكل الحشد نفسه وعزز من ترسانته التسليحية المتطورة وانتشر ميدانياً على عموم خارطة العراق ، ومع بدء عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر /تشرين الأول 2023 ، وتهيئة أذرع إيران لنفسها لمساندة منظمة “حماس” والتحسب لجميع الاحتمالات قامت بعض ميلشياته بالتعرض لإهداف إسرائيلية داخل الأراضي المحتلة ، رأى مراقبون أن هذه العمليات دفعت باتجاه توريط العراق في حرب لا يملك القوة ولا القدرة على مجاراة العدو الإسرائيلي فيها ، وتحركت واشنطن لتنذر السوداني بضبط هذه الفصائل لكنه لم يتمكن من إيقافها إلا بعد ان لوحت القيادة الأمريكية العسكرية في العراق باستخدام الضربات الجوية الذكية تجاه قادة هذه الفصائل واهداف أخرى. المتغير الكبير حدث بعد بدأ الحرب الإسرائيلية على إيران حيث مارست واشنطن ضغوطاً أكبر على السوداني لحل الحشد الشعبي، حتى أن الأمر وصل الى حدود سحب الموظفين وصغار الدبلوماسيين الأمريكيين لمغادرة العراق وتعليق عمل البعثات الدبلوماسية الأمريكية بشكل مؤقت بشكل أوحى للجميع بقرب استهداف العراق بشكل يغير معادلات الحكم فيه بشكل كامل . مع استهداف إيران إسرائيلياً وأمريكياً دخلت ميليشيات الحشد مرحلة جديدة من التحشيد ليس ضد القوات الأمريكية ومصالحها في العراق فقط، بل تخلت عن حيثيات أسباب تشكيل الحشد عقائدياً “الجهاد الكفائي”، وبات هم قادة الحشد مع بعض أبرز قادة الإطار التنسيقي يدفعون تجاه الحرب ضد الوجود الأمريكي حتى وإن تطلب ذلك مواجهة الحكومة العراقية التي اعتبرها بعضهم تتماشى ورغبات واشنطن في المنطقة. صاحب ذلك كله طلبات أمريكية واضحة بنزع سلاح كل الجهات التي هي خارج نطاق الدولة وحل الحشد الشعبي ودمج مقاتليه ضمن القوات المسلح العراقية. ليست واشنطن وحدها التي طلبت ذلك، بل طالب زعيم التيار الصدري ذو القاعدة الشعبية الشيعية الكبيرة بتنظيم الحشد وفق الضوابط القانونية والعسكرية، ومنع أي استخدام له خارج إطار الدولة، مبينا أنه “لا يمكن لأي دولة أن تنهض أو تُحترم ما دامت بعض أراضيها تخضع لسلطة غير سلطتها، وسلاحها ليس بيد مؤسساتها”.محمد شياع السوداني في موقف دقيق وخطير؛ فوجود فصائل مسلحة ترفض توجيهات الدولة بتسليم سلاحها، يعني أن على الجهات المعنية اتخاذ ما يلزم لإجبارها على تنفيذ القرار ، ولإن الجهات المسؤولة هذه لا تملك القدرة على إخضاع المليشيات لنفوذها ، ليس لقوة وإمكانات هذه المليشيات وحسب ، بل لإنها ترتبط بأشكال مختلفة بتوجيهات وأوامر دولة خارجية واي ممارسات تتقاطع واجندة هذه الدولة ستعني بالنهاية انفلاتا امنيا وارتباكا سياسيا قد يغير معادلة الحكم في العراق برمته ، ذاك ان هذه الدولة تعتبر الحشد الشعبي والمليشيات الأخرى غير المرتبطة به هي امتداد لعمق امنها القومي وان عليها دائماً ان تكون شريكة في الدفاع عن هذا الأمن بغض النظر عن مصالح الأمن القومي العراقي.مع تصاعد حدة الخطاب السياسي للفرقاء السياسيين والمليشياوين في العراق سعياً لأبعاد البلاد عن أي هجمات إسرائيلية وأمريكية قد تهوي به إلى نتائج كارثية، ومع اقتراب موعد اجراء الانتخابات التشريعية فإن رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يعلم انه إن أراد أن يحكم العراق مرة أخرى فلن يكتب له النجاح دون تنظيف ما علق بالعراق من فظاعات في حقوق الإنسان وفساد في كل مكان واستهداف لروح المواطنة والهوية الوطنية الجامعة لصالح الفِرقة الطائفية والقومية والولاء لدول لا تريد للعراق خيراً.

إرسال تعليق