مشاهدات
د. خضير المرشدي
من قال إنّ الطاعة فضيلة؟
من أقنعنا أنّ السكون حكمة؟
من باعنا الوهم بأنّ الماضي عصمة من الضلال؟
ومن زرع فينا الخوف من السؤال حتى صار السؤال جريمة؟
لقد غرقنا بهذه الأوهام حتى صرنا نعبُد التأريخ وشخوص بعينهم أكثر ممّا نعبد الخالق!! وجعلنا من التراث صنماً أكبر، ومن الأسماء جدراناً أعلى تمنع الضوء، ومن الفتاوى قفصاً للروح .
وبقينا نصرخ : (الأصل ثابت) ونحذّر من الاقتراب منه، حتى تحوّل هذا الأصل إلى حبل يلتفّ حول أعناقنا..!!
كلنا ودون استثناء، نقول: نريد النهضة.
لكن هل علمنا أن :
لا نهضة مع عقلٍ مستعار..
ولا حياة مع عبادة هُبَل العصر..
ولا مستقبل بأدوات ميتة..
كيف ننهض وإنّنا نتوضأ بنصوص لم نفهمها ولم تكن لعصرنا ؟
كيف نتجدد ونحن نتنافس على حراسة خرائب التأريخ، ونتقاتل على حدث مرت عليه قرون وقرون؟
وكيف نبني الغد، ونحن نسكن في ظلال القرون، ونظنُّ أنّها قصور الجنّة؟
إنّ ما نسمّيه يقيناً، هو ليس إلا خوفاً في ثياب المقدس..
وما ندعوه ثوابت ليس إلا أعذاراً للهروب من مواجهة المجهول واللايقين..
فأيّ يقينٍ أو مقدسٍ هذا الذي يمنعنا من إعادة الشك بالحقيقة المطلقة ؟
وأيّ إيمانٍ هذا الذي يخشى العقل؟
وأيّ هويةٍ هذه التي تموت إذا واجهت النقد؟
نحن العرب، دعونا نصارح انفسنا :
إننا لا نخاف من الغرب، ولا من الصهيونية، ولا من الاستعمار الجديد.
بقدر ما نخاف من أنفسنا إذا ثارت، من عقولنا إذا استيقظت، من حريتنا إذا انفجرت.
ونخاف من تمردنا إذا كان خلّاقاً أكثر مما نخاف من السجون والمنافي والمقابر…
لهذا أقول : لا خلاص لنا إلا بتمرد خلاّق . لا الإصلاح ينقذنا، ولا التوفيق بين المتناقضات يحيينا … حيث الإصلاح هو أكذوبة لتجميل الخراب.
الحلّ ليس في تجميل الماضي، انما في التمرد عليه. نعم، التمرد على الماضي واجب حين يصبح سجناً. وتحطيم الاوثان والأصنام واجب حين تَغتصبْ دور الآله.
ارجو الا نتحدث عن الخصوصية المجرّدة من سياقها الصحيح، وعن اهمية التراث والتاريخ وأن (من لا تأريخ له، لامستقبل له)، لا.. لأن الخصوصية المغلقة التي تقتل السؤال ليست هوية، إنما هي قبر للمعنى.
وأن لا نتحدث عن الثوابت،
لأن الثابت الوحيد في الوجود هو التغيير.
وألا نبيع الشعارات الكبرى:
حيث أنها عبارات بلا مضمون، لأنّنا لم نملك الشجاعة
لنسأل : ما معناها اليوم؟
الحل في التمرد الخلاق ..
ولكن لماذا التمرد؟
لأنّ العرب اليوم يعيشون مأزق التكرار القاتل: تكرار في الفكر، في السلطة، في نمط العيش، في الأيديولوجيا، في الخطابات والشعارات والكلمات ..
حتى في الأحلام .. حيث تتكرر الكوابيس ذاتها وأن كانت بصيغ مختلفة..
حضارتنا التي علّمت الدنيا معنى البدء، صارت تخشى البدء، وتتحصّن خلف جدران النصوص القديمة، فيما العالم يكتب لغته بأحرف التحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي.. نحن أمّة تُصرّ على حمل مفاتيح أبوابٍ لم تعد موجودة، ونغضب لأنّ الأبواب لا تُفتح .
التمرد الخلاق، هو أن نقطع مع ثقافة الطاعة العمياء التي جعلت الإيمان عبودية، والعقل موظفاً لدى السلطة، والمثقف ناطقاً باسم القطيع . التمرد الخلاق لا يستهدف الأصول والخصوصيات التي تمنحنا المعنى، يستهدف الأوهام التي جعلتنا نخلط بين الأصل والصنم، بين المقدس والمدنّس بين المعنوي والمُسيَّس، وبين الثابت والميت . لسنا بحاجة إلى ثورة في الشارع لتخرّب وتقتل، قبل أن ننجز ثورة في المعنى . لسنا بحاجة إلى إسقاط الأنظمة بقدر حاجتنا إلى إسقاط العقل الذي صنع هذه الأنظمة، العقل الذي قايض الحرية بالأمن، والمعرفة بالفتوى، والاختلاف بالتخوين .
فالتمرد الخلاّق ليس ضدّ الدين، إنما ضدّ تسييس الدين وضد التديّن الزائف. ليس ضدّ الهوية، إنما ضدّ تحويل الهوية إلى قيد وطوق حول الرقاب . ليس ضدّ الماضي، إنما ضدّ تحويل الماضي إلى قانون أبدي.
التمرد الخلاق هو أن نقول :
لا لكلّ سلطة تريد أن تشتري صمتنا باسم الأمن ..
لا لكلّ عقل يريد أن يكمّم أفواهنا باسم الفتوى، ومن دام ظلّه أو قدّس الله سرّه .
لا لكلّ خطاب يريد أن يسرق المستقبل باسم الأجداد والأصنام ..
فإذا أردنا البقاء كما نحن ، فلا نبحث عن نهضة، ولا نتحدث عن تغيير..
إنما نبحث عن مقبرة أوسع من مقبرة السلام، كي تتسع لجثث أحلامنا.
وإذا أردنا أن نحيا، فلنبدأ بقتل أوهامنا أولاً…فأما التمرد ، أو الفناء. لا خيار ثالث.

إرسال تعليق