صباح الزهيري
أفتتح المندلاوي الجميل هذا الصباح بجملة تقول :
من حقائق التاريخ الدولة القوية لا تنشأ إلا في أمم تنتج اكثر مما تستهلك ,
مقولة تلخص جوهر القوة والازدهار لأي أمة , إنها ليست مجرد مقولة اقتصادية , بل هي فلسفة شاملة للقوة تتجاوز الجانب المادي إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية , مما ذكرنا بمقولات يسارية كانت تنتشر في عقولنا ايام الشباب , مثل عملك شرفك , أو من لايعمل لا يأكل .. إلخ , الى ان اتانا يوم حكمنا فيه اناس جاءوا بهم من المنافي بعد ان فقدوا شرفهم فيه , ولايعرفون عن العمل سوى النهب والسلب وبيع الأوطان , ولا يفوت صاحبنا انه عندما نشر البارون دي مونتسكيو كتابه الأشهر روح القوانين في عام 1740, وظّف مفهوماً كان متداولاً بين بعض المثقفين الأوروبيين لوصف الحكم العثماني , وهو الاستبداد وذلك بهدف توفير ذريعة لنقد وإصلاح النظام الفرنسي الذي عاش في ظله , لكنّ تفسيره للاستبداد الشرقي أصبح تدريجياً بمثابة حكم تاريخي مبرم على طبيعة المجتمعات الشرقية لأجيال من مؤلفي الكتب والدارسين ورواد الرحلات في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر , كان هذا المصطلح يعني مجتمعا ثابتاً وخانعاً , وحكومة متخلفة وفاسدة , مع حكام تعسفيين وديكتاتوريين , يمتلكون رعايا أذلاء ومهمشين .
الدولة التي تعتمد بشكل أساسي على الاستهلاك وتستورد معظم احتياجاتها من الخارج , هي دولة هشة وغير مستقلة , فكلما زاد الاعتماد على الآخرين , زادت نقاط الضعف التي يمكن استغلالها , على النقيض من ذلك , فإن الأمة التي تنتج وتُبدِع في شتى المجالات - من الصناعة والزراعة إلى التكنولوجيا والعلوم - هي أمة تمتلك زمام أمرها وتتحكم في مصيرها , والإنتاج لا يقتصر على السلع المادية فقط , بل يشمل أيضًا إنتاج المعرفة , الفكر, والثقافة , والدول القوية هي تلك التي تستثمر في تعليم أبنائها , وتشجع على البحث العلمي والابتكار , وتخلق بيئة حاضنة للمبدعين والمفكرين , هذه الأمم تنتج أجيالًا قادرة على حل مشاكلها , وتطوير مجتمعاتها , وتقديم إسهامات للبشرية جمعاء. التاريخ مليء بالأمثلة على دول تحولت من أمم مستهلكة إلى قوى منتجة , لقد نهضت هذه الدول على أكتاف شعوب آمنت بأهمية العمل الجاد , والتخطيط المستقبلي , والتضحية من أجل المصلحة العامة , هذه الأمم لم تكتفِ بانتظار الفرص , بل خلقتها بنفسها عبر سواعد أبنائها وعقولهم النيرة ,على الجانب الآخر , تراجعت حضارات عظيمة عندما تحول تركيزها من الإنتاج إلى الاستهلاك المفرط , فعندما تغلب الرفاهية المفرطة والاعتماد على الغير , تبدأ عجلة الإنتاج في التباطؤ, وتتآكل أسس القوة شيئًا فشيئًا , مما يجعلها عرضة للانهيار .
بلد الحضارات والموروثات الإبداعية الألمعية الأصيلة , الذي أنار مسارات البشرية بالمعارف الفياضة بالطاقات المتنامية بالمستجدات , التي أوصلتها إلى مدارات زمنها المعاصر, هذا البلد , تحول إلى مثرودة في صحون الطامعين به , والمفترسين لثرواته وذاته وموضوعه , فبدى كأجداث خاوية , أحياءه أموات وأمواته أحياء , حاضره مفقود وغابره موجود , والتقهقر عنوان التواجد فوق ترابه الذي لا يرتوي من دماء أبنائه , ولا يشبع من أبدانهم الشهية , التي تغادر مسارح الحياة وفقا لإدعاءات الضلال والبهتان , وتدمير الدين والأمة بالدين. إن بناء دولة قوية منتجة , مسؤولية مشتركة بين الحكومة والمجتمع , على الحكومات توفير البنية التحتية اللازمة , والسياسات الاقتصادية المحفزة , وتشجيع الاستثمار , أما المجتمع , فعليه تبني ثقافة الإنتاج والعمل , وتقدير المهن المنتجة , والحد من ثقافة الاستهلاك المفرط التي تضعف الأمة , إن مقولة صاحبنا ليست مجرد درس في الاقتصاد , بل هي دعوة للعمل والبناء , إنها تذكير بأن القوة الحقيقية لأي أمة لا تُقاس بثروتها النفطية أو بمخزونها من الذهب , بل تُقاس بقدرتها على إنتاج ما تحتاجه , وتصدير ما تُبدِعه , وتحقيق الاكتفاء الذاتي في كل جوانب الحياة . عظمة الأمم لا تُقاس بما تملكه من قوة , بل بما تزرعه في نفوس أبنائها من مبادئ , وما تغرسه في مجتمعاتها من قيم , البناء الحقيقي لا يكون بالحجارة والآلات , بل بالعقول التي تفكر, والأيادي التي تعمل , والقلوب التي تؤمن أن الحق والعدل أساس كل نهضة , الحضارات التي تنسى هذا , مهما بلغت من التقدم , تظلّ هشة أمام أول اختبار جاد , ونحن بكل أسف شعوب لها ذاكرة الأسماك , أو بلا ذاكرة , فما إن بنينا شبه دول حتى نشطت عندنا الإنقلابات العسكرية والصراع المميت على السلطة, وأثبتنا أننا شعوب تحمل الكثير من العدوانية , ولأننا لانستطيع تحويل هذه العدوانية ضد الغير من الشعوب بسبب ضعفنا , حولناها ضد بعضا البعض , فأنظر ماذا يحدث في السودان وسوريا واليمن والعراق , فكل مايحدث ليس صدفة , بل هو مستمد من ثقافة عدوانية مرعبة نحملها في داخلنا.

إرسال تعليق