الحسد والغيرة... وباء اجتماعي ينخر جسد النجاح

مشاهدات

 


مصطفى الهود


في مجتمعاتنا العربية، لا يزال النجاح محفوفًا بالمخاطر، ليس فقط بسبب التحديات العملية والاقتصادية، بل بفعل أوبئة اجتماعية خفية، يتقدّمها الحسد والغيرة . هذان السلوكان لم يعودا مجرد مشاعر إنسانية عابرة، بل تحوّلا إلى سلوك جماعي منظم في بعض البيئات، يلاحق الناجحين أينما وُجدوا، ويمارس عليهم ضغطًا نفسيًا قد يصل في بعض الأحيان إلى الإقصاء والتصفية. الغريب أن هذا السلوك لا يفرّق بين بيئة غنية أو فقيرة، ولا بين المدينة والريف. ففي داخل العائلات، وبين الزملاء، بل وحتى بين الأصدقاء، نجد من يُضمر الكره لكل من يحاول التميز أو إحداث فرق في مجاله. لم تعد الغيرة أمرًا خفيًا، بل باتت تُمارس على المكشوف، وبدوافع غير مفهومة أحيانًا، سوى الخوف من خسارة مكانة أو شعور بالدونية.


الأمر لم يتوقف عند حدود العلاقات اليومية، بل امتد إلى ساحات أكثر قدسية: الأوساط العلمية، المؤسسات الدينية، وحتى الخطاب الأكاديمي. وأصبح من المألوف أن نسمع عن صراعات داخل الجامعات، أو خصومات بين الزملاء على خلفيات مهنية مغلفة بالحسد. الأدهى من ذلك، حين تتخذ الغيرة شكلًا عدائيًا، فيُتهم الأبرياء، ويُقصى المبدعون، وتُشوّه السمعة عن عمد، لا لشيء إلا لأنهم تميّزوا. بعض صنّاع المحتوى، وخصوصًا من الشباب الواعي، بدأوا في تناول هذه الظاهرة بأسلوب فني ساخر، عبر أفلام كرتونية قصيرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، ينتقدون فيها هذه السلوكيات التي تمزّق النسيج المجتمعي من الداخل. لكن السؤال هل يكفي هذا؟


إن ما نعيشه اليوم من تفشي لهذا الوباء الأخلاقي لا يقل خطرًا عن الأوبئة البيولوجية التي هزّت العالم، كالكوليرا أو "كوفيد-19". بل يمكن القول إن الحسد والغيرة هما وجهان خفيّان لوباء نفسي يتسلل بصمت، ويضرب بلا إنذار، ويُفسد العلاقات، ويُجهض المبادرات، ويقضي على كل طموح مشروع. لا سبيل إلى مواجهته سوى عبر الوعي، وتربية النفس، وإعادة إحياء منظومة القيم. وهنا تأتي أهمية المناسبات الدينية والوطنية، التي ينبغي أن تُستثمر لنشر ثقافة المحبة ، والاعتراف بالنجاح، وتشجيع التعاون بدل التنافس المرضي . إن النجاح لا يجب أن يُحاصر، بل يُحتفى به. والمجتمعات التي تحترم أبناءها المبدعين هي وحدها القادرة على بناء المستقبل.

تعليقات

أحدث أقدم