إميل أمين
يعيش الأميركيون في هذه الساعات ذكرى يوم الاستقلال والتحرر من الاستعمار البريطاني والذي تمرّ عليه في الرابع من يوليو/ تموز الجاري 249 سنة، والسؤال المهم الذي يشاغب عقول الكثيرين من الأميركيين وغالب الظن من غيرهم حول العالم : "ما الذي تبقَّى من الحلم الأميركي، وما الذي يتوجَّبُ على الأميركيين فعله للاحتفال بالذكرى المائتين وخمسين لمولد أميركا العظيمة في نفس هذا التوقيت من العام المقبل 2026 ؟ أحد أهم المفكرين المعاصرين الأميركيين، البروفيسور "جورج ويجل" من مركز الأخلاق والسياسة العامة في واشنطن، استحضر مؤخرًا عبر مقال له مشهدًا تاريخيًّا جرت به المقادير في تأريخ الأيام الأولى عقب الانتهاء ممّا يُعرَف بالمؤتمر القاري الأول للكونجرس، والذي بلور سيرة ومسيرة الولايات المتحدة . التقى بنجامين فرانكلين، حكيم أميركا، الفيلسوف، والاقتصادي، والعالم، الكاتب والسياسي والمؤلف، الرئيس المشارك في كتابة وثيقة الاستقلال الأميركية وواضع البنى التحتية للدستور، بسيدة فلوريدا الشهيرة، إليزابيث ويلينج باول، التي فتحت أبواب منزلها للآباء المؤسسين، وقد باشرته بالسؤال :
"حسنًا يا دكتور، ما الذي لدينا جمهورية أم ملكية؟"
كان جواب الحكيم بنجامين، البالغ وقتها من العمر 81 سنة، "جمهورية إن استطعتم الحفاظ عليها".
اليوم بات السؤال الذي يتردد في جنبات واشنطن : "هل استطاع الأميركيون طوال الـ 240 سنة المنصرمة، الحفاظ على الجمهورية أم أن النزعة إلى الملكية تبدو أقرب من البقاء الطويل للجمهورية حين أقام الرئيس ترمب نهار الرابع عشر من يونيو/ حزيران المنصرم، عرضًا عسكريًّا هو الأول من نوعه في تاريخ العاصمة واشنطن، قال البعض إن الرجل يحتفل بذكرى مولده، ولهذا خرج الكثير من الأميركيين حاملين اللافتات الزاعقة.. "لا للملكية".. "لا للملك ترمب". والشاهد أن المخاوف باتت تتصاعد في الداخل الأميركي من جراء المقاربة بين الكلمات الأولى في وثيقة الاستقلال، وبين حال ومآل السياسات الأميركية الداخلية والخارجية على حد سواء. تبدأ وثيقة الاستقلال بعبارة "نحن الشعب" لكن السؤال هو هل بات الشعب الأميركي بالفعل صاحب الكلمة الأولى في مسار ومدار اتخاذ القرار؟ منطلق التساؤل هو المخاوف التي تخيم فوق عموم أميركا اليوم خوفًا من فكرة الانقلاب الأوليجارشي التقني، الذي حذر وأنذر منه الرئيس السابق جو بايدن في خطاب وداعه، والذي يُعَدّ المكافئ الموضوعي لتحذير دوايت أيزنهاور من المجمع الصناعي العسكري الأميركي، في أوائل ستينات القرن المنصرم . يشير نفرٌ غير قليل من المراقبين للشأن الأميركي إلى ما يصفه "ويجل" بأنه صراع صبياني، بين ترامب وماسك، إلى تدهور في مفهوم السياسة العامة بإجمالي المشهد، ودليل على أن هناك خللًا جوهريًّا في منظومة الرؤية التي تقود الولايات المتحدة . في مقدمة المنطلقات التي كانت تزعج بنجامين فرانكلين، وجون آدامز، وتوماس جيفرسون ومن لفَّ لفَّهم من الآباء المؤسسين، العلاقة بين المال والسياسية، وقد بدا مؤخّرًا قولًا وفعلًا أن من يدفع للجوقة هو من يحدد اللحن . أظهر الصراع بين ترمب وماسك، أن مقولة الديمقراطية التي تباع على الأرصفة، ليست قولًا مغاليًا، فالفتي المعجزة تبرع بمليون دولار كل يوم في الشهر الأخير من الحملة الانتخابية للرئيس ترمب، ما مَكَّنه من أن يؤلف فريقًا غير مسبوق، استطاع أن ينفد إلى كافة مكامن الدولة الفيدرالية وأحشائها العميقة، بحجة البحث عن مسارب لتقليل الإنفاق.
هل من نتيجة أولية؟
الواقع مخيف، ذلك لأن ماسك بات لديه الآن فريق من الخبراء والمستشارين، مدنيين وعسكريين، يمكن عند لحظة بعينها أن يشكلوا حكومة موازية أو حكومة ظل. ولعله من القضايا الأكثر إثارة للمخاوف، العلاقة بين الشعب والسلطات الحاكمة الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، إذ باتت الهُوَّة تتسع بين ملايين الأميركيين من جهة، وبين القائمين على تلك السلطات من جهة أخرى، ما خلق مصطلح "ديمقراطية للقلة".. هل من دليل؟
نعم، وأقرب الأدلة هو محاولة التلاعب بالدستور الأميركي، في ظل كونجرس خجول، وأغلبية شبه صامتة أمام الرئيس الذي يحلم بولاية ثالثة، بالضد من الدستور، ويمنع حق الجنسية لمن يولد على التراب الوطني . أكثر من ذلك، ربما بات ترمب اليوم يخشى من سطوة إيلون ماسك، الرجل الأغنى في تاريخ أميركا، وأحلامه بالوصول إلى رئاسة أميركا، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا بتغيير الدستور.
حلم الجمهورية الأميركية الذي أرسى قواعده بنجامين فرانكلين وصَحْبه، يكاد يتبَخَّر من جراء الخوف من المزيد من المهاجرين، وما يمكن أن يتسببوا فيه من انقلاب ديموغرافيّ، بحسب رؤية اليمين الأميركي المتشدد إلى حد التطَرُّف.
هل أتاك حديث زهران ممداني، الشاب الديمقراطي الواعد، والذي استطاع أن يهز أركان مدينة التفاح، ويكتسح في الإنتخابات الأولية لمنصب عمدة نيويورك؟
سيد البيت الأبيض يتهمه بأنه شيوعي تارة، واشتراكي تارة أخرى، ويتوعد بأن يقطع التمويل الفيدرالي عن نيويورك حال قام بتنفيذ وعوده الانتخابية والتي تصب في صالح الذين صَوَّتوا له . أكثر من ذلك، إنه يتهم الديمقراطيين بأنهم من يقسمون البلاد، عبر اليسار التقدمي الذي يرفع رايات اشتراكية، أي ذات الاتهامات التي وجهت من قبل لباراك أوباما. أخطر ما يحدث للجمهورية الأميركية اليوم، هو أن الانتخابات وهي قمة الاختيار الفردي الحُرّ، باتت تجري بمنطق المحاصصة العِرْقية مرة، والدينية مرة أخرى، وفي هذا تراجع عن فكرة فصل الدين عن الدولة .اليوم يحلق الخطر الكبير فوق سماوات أميركا من جراء الغضب الشعبي، وما حدث في لوس أنجلوس مؤخّرًا خير دليل على ذلك، فقد تسبب تدخل الحرس الوطني ونشر وحدات من الجيش، في رفع أعلام الكونفديرالية مرة جديدة، وهو ما حدث في تكساس ويمكن أن يمتد إلى الكثير من الولايات الأميركية.
لكن على الجانب الآخر "هل المشهد الأميركي سوادوي إلى هذا الحد؟"
الثابت أنه قبل عام واحد من الاحتفال ب 250 عام على تأسيسها، لا تزال الولايات المتحدة الأميركية معجزة، جمهورية تمتد على مساحة قارّيّة واسعة، أضفت عليها الطبيعة حماية غير مسبوقة، محيط من الشرق وآخر من الغرب ما يعني أنها تتمتع بفكرة الدولة المهيمنة بذاتها، في حين يبلغ عدد سكانها 340 مليون نسمة، وبمعدل مواليد أفضل كثيرًا جدًّا من أوروبا وروسيا وربما الصين. تبقى أميركا رغم كافة المخاوف، مجتمعًا علميًّا قادرًا على الابتكار والريادة، ويتمتَّع بنخبة علمية فائقة الأهمية، وبموازنات هائلة للبحث العلمي، تجعل من الأمل حاضرًا في الحال، ومشرقًا في الاستقبال.
متى يمكن أن تعود أميركا مدينة فوق جبل من جديد؟
مؤكَّد عندما يعمل الشعب واحدًا تلو الآخر على إعادة بناء الصلة بين الحرية والفضيلة، والالتزام بالدستور الجمهوري، ورفض التسامح مع الديماجوجية، من خلال تحمل المسؤولين المنتخبين المسؤولية عن معايير السلوك الراشدة. لا يمكن لأميركا أن تنمو وتزدهر وأن تستمر في كونها أرض الأحرار وموطن الشجعان إلا باستعادة الحرية الناضجة والحسّ الأخلاقي السليم ووضعهما في خدمة الحق والسلام، التنمية والوئام من مشارق الأرض إلى مغاربها.
إرسال تعليق