مشاهدات
سحر النصراوي
نحن اليوم أمام تحوّل سوسيولوجي غير مسبوق في تاريخ تونس، بل وفي أغلب المجتمعات الحديثة, جيلٌ بأكمله يُقاد نحو الشيخوخة من دون أن يُمنح فرصة تكوين أسرة . لا لأن هذا الجيل تمرّد على الزواج أو نفر من الحب، بل لأنه وجد نفسه معطّلاً قسرًا عن تأسيس الروابط التي كانت، لقرون، تؤمّن له سندًا طويل الأمد.
تُشير الإحصاءات الرسمية إلى تراجعٍ حادّ في نسب الزواج في تونس خلال العقدين الأخيرين، مع ارتفاع مطّرد في معدلات الطلاق (بلغت أكثر من 40% في السنوات الأخيرة)، وتزايد لافت في أعمار الزواج الأولى، خصوصًا في صفوف النساء. أمام هذا الواقع، لا يمكن تجاهل أن شريحة واسعة من جيل اليوم المولودين بين الثمانينات وبداية التسعينات تسير نحو أفق يندر فيه الارتباط العاطفي المستقر، وتكاد تغيب فيه فكرة "العائلة" كمنظومة حماية متبادلة. إنها ليست فقط أزمة مؤسسة الزواج، بل أزمة السند البشري نفسه .
جيلٌ بأكمله سيبلغ سنّ التقاعد والمرض والوحدة، بلا أبناء، بلا أزواج، بلا شبكة قربى تحميه . جيلٌ لا يعرف من سيسنده حين يمرض، من يناوله كوب ماء ، علبة دواء، من سيؤنس طريقه في وحدته الطويلة . جيلٌ يتحوّل، شيئًا فشيئًا، إلى كيان هشّ، لا لضعف فيه، بل لفراغٍ اجتماعي يطوّقه من كل الجهات. تفكك النسيج الاجتماعي، وضمور العلاقات طويلة الأمد، جعل الفرد المعاصر محاطًا بعلاقات هي أقرب ما تكون للسائلة، مؤقتة، هشة و مشروطة . تبدّلت المفاهيم بحيث لم يعد الزواج يشكل ملاذًا، بل أصبح مخاطرة .. لم يعد الإنجاب يشكل تواصلا و أملاً، بل صار عبئًا مؤجّلا . لم تعد الأسرة "مشروع حياة"، بل احتمالًا تزداد كلفته المادية والمعنوية كل يوم .
ومع هذا التحول ، أظن أنه قد تبرز ضرورة إعادة التفكير في البنى والصيغ المستقبلية للرعاية فإن لم تعد الأسرة ضمانًا طبيعيًا للرعاية المتبادلة، فكيف سيتعامل هذا الجيل مع سنواته الهشة؟
هل ستكون دور الرعاية الاجتماعية هي البديل الجماعي؟
وهل نحن مهيأون نفسيًا وثقافيا لتقبل هذه الفكرة؟ هل نحن مهيأون ماديا لذلك ؟
هل ستكفي الموارد، والقلوب، والأيدي، لإيواء آلاف الأرواح التي لن تجد بيوتا حقيقية ؟
ليست هذه نبوءة سوداوية، بل هي ملاحظة سوسيولوجية تستند إلى معطيات واقعية وتحولات في بنية المجتمع اليوم . جيل بأكمله يعيش اليوم ذروة عزلته العاطفية والاجتماعية، ليس لأنه أراد ذلك، بل لأن العالم تغيّر ، واختطف منه فرصة المشاركة. جيل يقترب من الشيخوخة . ولعلّ السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح اليوم هو : ماذا سيحلّ بهم حين يضعف الجسد، وتتآكل الذاكرة ؟ و من ذا الذي سيذكرهم ؟ جيل بأكمله سيمر على هذا العالم ، كما لو كان ضيفا مؤقتا .

إرسال تعليق