محمد البصيري جلالي
لم أحدد زمانًا أو مكانًا لأحداث القصة، لأن ممارسات البشر فوق البسيطة هي نفسها منذ نشأة الخلق إلى يومنا هذا. فالعدل ضالة كل ذي حق سُلب، والعدالة غاية منشودة. مهما توفرت أدواتها المادية والمعنوية، لا تكتمل باسترداد الحقوق او نيل العقاب الجزاء، وقد ترسخ في الروح أثر الفعل الموجب لها.
كل موازين العدل أربكها الهوى
إلا
ميزان من على العرش استوى.
كلما ذُكر الحسن والجمال، همسوا باسمها وتغنوا بأوصافها. حدث أحد العرب فاستحسن السامعون إفراطه في وصفها، قال:
"رأيتها تمشي وقد غطت شعرها
فظننتها تخفي فانوسًا تحته لشدة توهج وجهها ونضارته
وأردف قائلًا :
قامت تسلم كأنها جنة
ووحدي
مسلم ،والله وحده يعلم
كل ليل ليست فيه جهنم .
فقد أخذت من الحسن نصيبًا ومن الحياة خيبة الفقد والترمل في عز شبابها، وهي أم لطفل لم يبلغ السادسة من عمره . سهرت على تربيته وحرصت على تعليمه، فهو كل أمل يربطها بالحياة، في ظل واقع مؤلم وحالك، عيون تراقب وتنهش، وفقر يتستر بالجدران فيذهب بعض دفئها. ولم ينل من خلقها فتعففت عن التبرج وأحجمت عن الزواج ورفضت كل من تقدم لخطبتها من الأثرياء والأمراء والفرسان، ومن طلب ودها صدته ولم تكلف نفسها النظر بوجهه. حتى نفث الخبر وذاع في مجلس الملك. وقُص على مسامعه، فقال :
"من يصفها لي؟" ولم تكفِ ثلاث ليالٍ من السهر شعراء مجلسه لوصف جمالها، حتى ذبل وجهه وأرهق عقله ورجف قلبه على غير عادته، فقرر الذهاب لرؤيتها.
قال وزرائه وأعوانه:
"نأتيك بها خاضعة ذليلة."
قال: "ويحكم، لست بجبار متكبر، إنما أنا بشر، فلا يحشر أحدكم أنفه في أمر يخص مشاعري. سأخرج قاصدًا موطنها متقصيًا أثرها واردًا أهلها. فإني بعد ما سمعته منكم، إن نلت رضاها كسبتها، وإن رفضت لن يتزوج أحد من مملكتي بعد ذاك."وفي صبيحة اليوم التالي، جهز نفسه كما يليق بالملوك والأمراء وركب فرسه الهوجاء وسار في ركب ضخم ليومين حتى تراءت له ديارها. وأُعلن عن قدوم جلالة الملك في تلك المدينة الصغيرة، فترجل وحيدًا بعدما أشاروا عليه بباب بيتها، وكانت تلك رغبته.
تقدم وطرق الباب، فتح إبنها مرحبًا به لفناء منزل متواضع قائلًا: "تفضل سيدي لغرفة الجلوس.
" فحياه الملك وشكره للطفه ونباهته، ثم استأذنت والدته الدخول، وأقبلت نحوهما، وقف الملك مذهولًا متلعثمًا، في كل قول يردد:
"ليس من البشر، لقد كذبوا كلهم في وصفها، لم يقل أحد أنها ملاك.
" فقاطعه الصبي كأنه أيقظه من حلم جميل :
"تفضل بالجلوس سيدي، هذه والدتي . نحن في خدمتك." فسلمت بصوت خافت به رعشة، ثم قالت :
"أجئتم لأخذ الجزية يا جلالة الملك؟ لو كنا نملك شيئًا لجئنا به إليكم ،وما كلفناكم مشقة المسير إلينا.
" تنهد الملك وقال:
"ما أنا فيه لا يتطلب التقديم، ولم آتِ لأمر قديم، ولن أسرف أو أطيل، جئت طالبًا يدك وانحنيت تواضعًا، فما تقولين ؟" أجابت:
"يشرفني يا سيدي، ولكن أستشر إبني، فهو كل ما لدي في هذه الدنيا."
قال : "لك ذلك." ثم نظر للصبي بابتسامة ملأت محياه، فحدق الصبي في وجهه مليًا وقال :
"لا يا أمي." فتجهم وجه الملك وعلى محياه السخط والغضب، ثم أعاد النظر إليه وقال :
"تزوجيه يا أمي." ارتبك الملك فكأنما يخاطب جنيًا صغيرًا لا صبيًا لم يتجاوز السادسة، وسأله :
"لماذا غيرت رأيك في لحظة ؟"
قال الصبي:
"هل تعلم يا سيدي أنك في نفس اللحظة تغيرت ملامح وجهك من السرور، والفرح إلى العبوس والغضب؟ إني اختبرت أهواءك ومزاجك وحكمت على مصير أمي، ولو أني رأيت منك سخرية لوقع رفضي لك، لقلت أنك شرير تأخذ كل ما تريده بالقوة، لكن الغضب ردة فعل أي إنسان يقابل بالرفض والقهر.
شعر الملك بسعادة تغمره بعد ما سمع حديث الصبي، فقد حظي بما عجز عنه كل من سبقه ،لنيل رضا سيدة الحسن، فكان له ما تمنى وتزوجها وجعل منها سيدة لقلبه ،وقصره وجواريه وزوجاته، وأخذ الصبي معه، خصص له جناحًا بقصره ورجال علم يشرفون على تعليمه.ولشدة إعجابه به صاحبه برغم فارق السن بينهما لما رآه فيه من فطنة وذكاء. فكان دائمًا يبهره بما يظهره من فلسفة للحياة ورؤية لأمور البشر في مدى خبثهم وتقلب مزاجهم وتناقض أفكارهم . وكلما غاب عنه أرسل في طلبه ليجالس علماء مجلسه ووزرائه ويطلب مشاركته برأيه في بعض الأمور التي تتم مناقشتها بعيدًا عن الحرب وأمور الحكم . وسأل الملك ذات سهر حاشيته عن ما تكنه نفس الفقير للغني وما تحمله نفس الغني تجاه الفقير وعن السعادة ، وأدلى كل بدلوه حتى جاء دور هارون، ذاك الصبي الذي أصبح شابًا يافعًا، فقال :
لا يستعان دائمًا لمعرفة الحقيقة بالقوة، وإنما أيضًا بالجزاء.
قالوا: "كيف؟
قال: أقترح عليكم أن أعد جنازة وهمية للغني يؤبنها الفقير، ثم جنازة للفقير يؤبنها الغني، ونرى ونسمع ما تكنه الأنفس لبعضها في حضرة الموت. فأذن له الملك وأنعم الحاضرون .
ومن الغد، أحضر معه أشد الناس فقرًا في تلك المدينة، ثم جهز تابوتًا غطاه برداء مطرز ذهبًا وفضة، ودُعي الملك وحاشيته لحضور الجنازة الوهمية، ثم أمر الفقير الذي أتى به وأمره أن يؤبن أثرى التجار بما يعلمه من خصال وأفعال يأتي بها الأغنياء. في حضور جلالة الملك وحاشيته، وإن كذبت علمناك، وإن صدقت جزيناك. فتقدم الفقير ووقف أمام التابوت وقال:
"رنت
قروشك فطربت
وضاعفتهم
وفرحت
وتركت
أكداسًا ورحت
وكم لبست
من ذهب
قد غاب
عنك وذهب
ها أنت
عاري في الخشب
كل ما أنفقته سُجل صدر الكتب."
فقال لهم الملك:
أعطوه ما يغنيه عن السؤال بعد يومه هذا .
ثم أعاد هارون الكرة وأحضر أحد الأثرياء لساحة القصر حيث يقف الملك وحاشيته، وسأله وهو أمام نعش وضع عليه رداء أسود رث أن يؤبن رجلًا فقيرًا انتقل إلى جوار ربه، ويصدح بما يخالج فكره وقلبه تجاهه، قائلًا: "إذا كذبت علمناك، وإن صدقت جزيناك . فتقدم الثري وقال :
"غيب الموت الكسل
لا عقل
يدعو للعمل
كل ما
أفلحت فيه
طرق
أبواب الأمل
باسطًا
كفيك تسأل
لا حياء
أو ملل
فليرحم
الله التراب
أي ثقل قد حمل
ما بكت
عليك السماء
أو مزّق الحلق زحل."
وحين أنهى قوله، قال الملك:
"ادعوا للغني لعل الله يلين قلبه على الفقراء، ثم أكرموه، فقد يُعطَى له فيعطي ." ثم نظر لهارون قائلًا : "من منهم أخذ النصيب الأكبر من السعادة يا ترى ؟" رد هارون: "إن السعادة متقلبة ولا تستقر على حال، تأخذ من الفقير بعض وقته وتذهب للغني تفعل الشيء نفسه، لأن دوام الحال من المحال ."
فرد الملك:
"كأنك تقول أن بعد سعادتي هذه حزنًا، أو هناك ما يهدد بزوال ملكي وهلاكي." فأجابه هارون: "أدام الله عزك، ولكن عليك بالحذر ، فإن الأعداء يتربصون بك، وليس عدوك من يحاربك بجيش، فقد يكون بيننا." ونظر لقائد الجيوش، وكان يعرفه جيدًا من يوم حادثة مقتل أبيه وهو طفل صغير، ترسخت في ذهنه صورة الواقعة بكل ما تحمله من خوف وألم. وكان قائد الجيش يومها جنديًا في جيش الملك يرافق قافلة تجمع أموال الجزية (والضرائب). وقد نسي كل ما حدث في زمن يتكرر فيه القتل والظلم كثيرًا بلا رقيب أو عقاب . ولما انفض مجلس الملك، حدث هارون على انفراد :
"ما قصدك بتحذيري من خائن في مجلسي؟" قال هارون:
"يا جلالة الملك، لا أريد أن أظلم أحدًا، ولكن لغاية في نفسي، فعلتها، أمهلني ثلاث ليالٍ، سآتيك بالخبر اليقين، وكن يقظًا دائمًا وحذرًا من كل المحيطين بك."
وتركه في حيرة من أمره عن قصد، تحاصره الشكوك ويلازمه الخوف، وهو ملك لم يُهزم له جيش أو يخسر حربًا منذ توليه الملك بعد وفاة والده.أما هارون، فكان كل استنتاجه في محله، فقائد الجيوش حقًا يحيك مؤامرة للإطاحة بالملك. وما لاحظه من تغير في سلوكه واختلاسه النظر للملك كلما حل بمجلسه أمور تثير الريبة . فهو يراقبه منذ سنوات ولا يغفل عن تقصي أخباره ، وكلف من يأتيه بكل صغيرة أو كبيرة من تحركاته، عاملًا بمقولة الجزاء والولاء، فجند أحد الحراس ممن يثق بهم، وكلفه بمراقبة قائد الجيوش . فجمع ما تصوره كافٍ لإدانته، وعليه أن يسابق الزمن قبل حصول المصيبة. فاستغل اجتماع الملك بوزرائه وكل حاشيته في غياب قائد الجيوش، واستأذن الملك بأن يطلعه على ما خلص إليه في ما يخص الخطر المحدق بالمملكة . فأذن له ، وكل الحاضرين بما فيهم الملك ينتظرون على أحر من الجمر ما سيقوله هارون . وكان الأخير قد صاغ بأسلوب ماكر بداية حديثه، وقرر أن يرمي بسنارة أفكاره في جمعهم وعلى مسامعهم ، قائلًا
: "يا جلالة الملك، هل تأخذ برأيي وتقطع رأس قائد جيوشك؟ رد الملك بسخط كبير :
"كيف تطلب هذا وأي جرم قد فعل؟"
قال هارون: "إنه الخائن الذي بيننا، وحدثتك عنه بدون ذكر اسمه قبل أيام، والآن تأكدت من أمره."
وفي لحظات، أمر الملك كل الحاضرين بالانصراف، حتى فض مجلسه، ولم يبقَ بجواره إلا حارسه الشخصي المقرب وهارون. كانت مكيدته التي خطط لها تشوبها بعض الشكوك، برغم معرفته الشديدة بأن قائد الجيوش حين يعلم أن رأسه مطلوب في مجلس الملك، سوف يهرب، وحينها تقام عليه الحجة. ويستبعد قدومه، حتى لو كان بريئًا، وإذا ثبت صحة ما بلغه عنه وما حدثه حدسه واستنتاجه من مراقبته له، وكان يخطط للإطاحة بحكم الملك، سيتمرد، وفي الحالتين سينتقم منه. أمر الملك حارسه بأن يرسل في طلب قائد الجيوش في عجل، والتفت لهارون قائلًا :
"هيا أخبرني بكل ما تعلمه عن هذا الأمر المشين."
قال هارون: "انتظر يا سيدي، سيأتيك الخبر اليقين من رسلك إلى قائد جيوشك." وبينما هما يتطلعان لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور بنقاشهما، أقبل أحد الحراس، دنا من الملك وقال:
"إن صفًا طويلًا من العساكر يستأذنون للوقوف بين يديك، يتوسلون عفوك." قال هارون: "حمدًا لله ، لقد كشف أمرهم وأحدث عملهم ، جاؤوا أذلةً ابتغاء عفوك لحفظ أعناقهم."عليك يا سيدي أن تصعد إلى العلية وتحدثهم من منبرها المطل على الساحة حيث هم، وسأرافقك لتكن في مأمن مما يكيدون . فرد الملك:
"نعم الرأي، هيا بنا لأنظر في أمرهم ." وهارون يحدث نفسه: إن ما بثه من خوف في ذهن الملك جعله طيعًا له ممتثلًا لأمره، ولم يكن عبثًا ، فقد أتت فراسته بثمارها، فأصبح قربه من الملك مصدرًا للأمان، ورأيًا به لا يُستهان. ولما أطل الملك من شرفة عليته، رأى جمعًا من العساكر قد انحنوا وهم يتوسلون عفوه، معبرين عن ندمهم ، وفي لحظات، التحق به بعض الخدم من قصره ووزيران من وزرائه يحملون أكفانهم بين أيديهم، وعيونهم تذرف بالدموع، وألسنتهم تطلب العفو، وانحنوا جميعًا وهم في ذل وخنوع، واضعين جباههم على الأرض، معترفين بذنبهم، فقط غرر بهم قائد الجيوش، وانكشف مخططه، وهم يعرفون أن مصيرهم عذاب شديد يعقبه قطع رؤوسهم.
فنظر الملك لهارون وقال :
"كنت أعرف من أول ما رأيتك أنك جني صغير، وها قد كبرت وأنقذت عرشي." فقبل هارون قائلًا:
"أنا في خدمتك سيدي.
"ثم نزلا للمجلس، وأمر الملك حراسه بسجن كل من يثبت تورطه في المكيدة، مع كل من جاء يطلب العفو، حتى يتحقق مما حيك من طرف قائد الجيوش، وأمر بتشديد الحراسة على القصر وكل المدينة. ولم تمضِ ساعات حتى عاد رسله وأخبروه أن قائد الجيوش قد فر خارج حدود المملكة قبل وصولهم، فهناك من أبلغه أن خطته للإطاحة بالحكم قد كشفها هارون، وأصبح عامة الناس على علم بها، وقد جئنا لأحد أتباعه الخائن مقيدًا، وهذه رسالة من قائد المنطقة الشمالية لجيوشنا هناك. قال لحاملها :
"سلمها لكاتبي ليقرأها." فتحها كاتبه وقال: حفظ الله جلالة الملك، بعد التحية والسلام، لقد فر الخائن، وأرسلت لك مع كتابي هذا أحد أعوانه مقيدًا بالسلاسل، وكل من تحت أمرتي من الجنود يهتفون باسمك وبدوام عرشك وملكك وطول عمرك، شاكرين فضلك، فاطمئن، نحن في خدمتك حارسين حدود مملكتك، مخلصين لك ما حيينا، خادمكم قائد المنطقة الشمالية." تم.
فكل ما حدث أن الذين غُرر بهم، لما علموا بما حصل من كشف هارون لمخطط قائد الجيوش لمجلس الملك، لم ينتظروا أن يُنادى عليهم بأسمائهم لقطع رؤوسهم، فسلموا أنفسهم لعلمهم أن لا أحد سينجو منهم وقد تآمروا عليه مع قائد الجيوش، وقد كُشف أمره، وقُرّر قطعُ رقبته، فبادروا بطلب العفو لتخفف عنهم العقوبة قبل فوات الأوان. ولما انتهت العاصفة ونال كل جزاءه وامتلأت السجون بأتباع الخائن، عين الملك قائد منطقة الشمال على كل جيوشه، لما رأى فيه من اجتهاد وثقة وغيرة على المملكة، والتفاني في خدمتها. ثم اجتمع بهارون وأرسل لابنه الصغير وولي عرشه، وهو أخ لهارون من أمه، ليجالسهما. قال الملك لهارون :
"ما علمته من أمر الحكم، وقد رافقتني كثيرًا بمجلسي هذا.
" قال هارون : "إني لا أسأل منصبًا أو جاهًا، وقد حظيت منكم بكل الرعاية والأمان، ورأيت السعادة لا تفارق وجه أمي بعد الحزن والحرمان، فعاهدت نفسي لخدمتك وخدمة أخي ولي العهد بما نهلت من العلم تحت رعايتك، لرد الجميل، والإحسان بالإحسان، ووجدتك قد خشيت الله في كل شيء إلا أمر قضاة مملكتك، فقد امتلأت بطونهم (سحتًا) وغرهم الشيطان. وإن من مزايا إقامة العدل دوام الملك، وأخطأ من قال بقدر العطاء يكون الولاء . إن القاضي هو مؤتمن إحقاق العدل، وليس بصاحب مهنة كأي المهن، كل ما أغدقت عليه أحسن صنعًا، وإنما يكون اختياره عن مدى نضج عقله وتحصيل علمه وسلامة رأيه وخلقه، حيث لا تغريه عطايا ولا يربطه ولاء، فنزاهته تستمد من نتاج حريته في تحكيم عقله والتزامه بإنسانيته، وإن الغفلة عن الأخطاء من أسباب كثرة البلاء. وأنت ترى يا سيدي من أفلت من العقاب بقتله والدي ،ولم ينل العقاب قد كبر جرمه حتى طمع في الإستيلاء على عرشك بدهاء، فأين كان عدل قضاتك، وقد برأوا جامع أموال الجزية وهو يفتك بالرعية ويسلب الفقراء، فأنزلوه منزلة عليةً لا تطالها قوانينك، وقد غاب عقل الحكماء. وإن أغلب الخدم والعساكر والقضاة لا يطيعون أمرك إلا خوفًا على زوال النعم والمكاسب وفقدان المناصب، ثانيًا، كل الذين ذكرتهم، لو أطاح بك الخائن، سيصبح هو سيدهم ويطيعونه، وهذه طبيعة البشر، فمنهم المتعفف ومنهم الطماع، ومنهم فئة تشبه كلاب الحراسة، لو ربطت كلبًا أمام بيت، فسيسهر على من فيه مهما كان ساكنه، وينبح على القادمين، وإذا أقاموا ولو ليلة، قام بحراستهم وسهر على حمايتهم، وهو بذلك يحمي نفسه وقوته."
ثم قال : "سأبوح لك بسر أحمله منذ سنوات، كنت صغيرًا، تركتني أمي مع والدي وذهبت لتحضر لنا بعض الطعام من بيت جدي، وأقبل علينا جنودك لأخذ الجزية، ولم نكن نملك مالًا ولا مأكلًا، وكانت تلك المرة الثالثة لقدومهم، ولما أخبرهم والدي أنه لا يملك ما يعطيهم، وصاح في وجوههم :
'أنا جائع'، ضربه أحد جنودك بالسيف، أسقطه أرضًا يتخبط في دمائه، وقال:
'اشبع موتًا إذًا .' أما أنا، فكنت أتخفى تحت كيس به صوف، وقد شاهدت كل ما حصل، ولم أنسَ وجه ذلك الجندي أبدًا. ولما تزوجت والدتي وجئت بها إلى هنا، لم يمضِ وقت طويل حتى رأيته، فكنت دائمًا أراقبه كلما حل بمجلسك، حتى أصبح قائدًا لجيوشك، وجعلت مرافقًا مقربا مني يأتيني بأخباره. حتى شعرت من فترة قصيرة أنه تغير كثيرًا، وأخذ ينظر إليك بخبث كبير باختلاسه النظر لوجهك، وكثير الارتباك كلما تحدثت عن الثقة والإخلاص، فيضع يده على وجهه وكأنه يخفي شيئًا، حتى كدت أقرأ أفكاره، فنصبت له فخًا بطلب منك في مجلسك وأمام حاشيته بقطع رأسه، وكنت أعلم بأن الكثيرين سيبلغونه بالأمر لنرى ردة فعله." ولم ينهِ حديثه، شعر الملك بأن شرخًا يتسع في أرجاء مملكته، فأمر بإحضار كاتبه، ولما دنا منه، أملى عليه أمرًا ملحًا.ولما اكتمل مجلسه بحضور كل الوزراء والقادة والقضاة، أمر كاتبه أن يقرأ على مسامعهم الأمر الذي اتخذه، وعليهم السمع والطاعة، فتقدم الكاتب ثم قال:
"باسم جلالة الملك، قرر ما يلي:
تعيين هارون قاضيًا للقضاة وكبير مستشاري الملك، وحق ولي العهد محفوظًا."
فأنعم كل الحضور، ومروا أمام الملك مقبلين يديه، مطأطئين الرؤوس، وهم يباركون بحرارة لهارون لتوليه المنصب الجديد، ولما انتهت مراسم تنصيبه.طلب حضور كل قضاة المملكة، وما هي إلا ساعة حتى أقبل أصحاب العمائم بأشكال وألوان مختلفة تعلو رؤوسهم كثمار اليقطين. وبحضور جلالة الملك ووزرائه، استأذنه ليطرح بعض الأسئلة على جناب القضاة، أذن له، وكان أول سؤاله:
"يا حضرة القضاة، بما تحكمون بين الناس؟"
قالوا: "نحكم بالعدل والولاء لسيدنا الملك."
قال: "وما معرفتكم بالعدل؟"
قالوا: "علمناه من قوانين المملكة وما أمر به سيدنا الملك."
قال: "ولو خالفت نصوص القوانين ما تراه عقولكم أصوب، هل تتبعون النصوص أم العقول؟" أجمعوا أن لا يحيدوا عما في قوانين المملكة.
قال: "فما حاجتنا بعقولكم وهي لا تنتج شيئًا؟" وأمر بجلدهم حتى لا يقوى أحدهم على السير بمفرده لأيام.
فاستنكروا قوله بسخط شديد، فقال لهم :
"ألا تجلدون كل من لا يحكم عقله ويجانب الصواب؟ لأن التباس الأمور يتطلب فراسة واجتهادًا."
قالوا: "نعم "
فرد عليهم : "إنما جعلت العقول للتمييز بين الصح والخطأ، فلكل نزاع ما يحيط به من شوائب الأمور، ومن يدعي منكم أن لا أهواء له فهو منافق." سأدعكم تحكمون بين الناس بما أنتم عليه من علم، وسأترك بابي مشرعًا لكل من يأتي من الرعية متظلمًا من أحكامكم.
انصرفوا كل لمجلسه وقاعة حكمه. ولما انفض مجلس الملك قال له :
"لقد أرعبتهم بامتحانك، وهم يكنون لي كل الولاء." فقال له:
"أتعلم يا سيدي، لو أن الخائن ،نجح في مبتغاه، هل سيحاكموه أو يعلنوا الطاعة والولآء، وهم قضاة مملكتك؟"
قال الملك : "لقد عرفت الآن سبب قسوتك عليهم، نعم الرأي، حقًا لو أنهم إتبعوا ما تفيض به العقول من عدل حكموا به بين الناس، لكان أصوب وأكثر نفعًا لي ولمملكتي."
وهما يتجادلان في أمور القضاء، قال هارون: "إن تحقيق العدالة لا ولاء فيه لأحد، إلا أن ترجح موازينه الأفعال، وتنال كل نفس ما لها وتعطى ما عليها. بالرغم من أن القاضي بشر مثلنا، يخطئ ويصيب، وله أهواء ومزاج، وأيضًا سيفا مسلطا يراقب أحكامه، فإذا أرهق كاهله بالولاء، غلبته الأهواء، فمصلحته ورقبته بيد سيده ، فيؤوّل النصوص ويطوعها رغبة في الرضى، وهذا ما يعيب مهنة القضاء. واعلم يا سيدي أن كلًا منهم يستحق مائة جلدة." فضحك الملك قائلًا: "لقد بالغت وأسأت الظن بهم، سبق وأن قلت لك أنهم يكنون الولاء المطلق لي فقد اطاعوا والدي ،والآن يطيعوني." قال هارون: "إني أخالفك الرأي يا سيدي في أمرهم، وحرصًا مني على سلامتك ودوام عرشك، دعني أختبرهم، فإذا نجحوا، اطمأن قلبك وقلبي، وإن فشلوا، عاهدني أن لا تقطع رقابهم، بل تجلدهم فقط، لعلهم يهتدون." قال: "لك ذلك.
"قال هارون: "إليك خطتي يا جلالة الملك، من مساء هذا اليوم، ادعِ أنك مريض ولازم الفراش لثلاث ليالٍ، وامنحني من خزائن ملكك عشرة آلاف قطعة ذهبية، وحين أجتمع بهم، ستكون أنت خلف هذه الستارة، حيث لا أحد يعلم بوجودك غير حارسك المقرب، ساحدثهم في أمر بدون رقابة الحراس، وبعدها يكون لك القرار." فطلب الملك حضور المكلف بالخزينة، وطلب منه إحضار صندوق به عشرة آلاف قطعة ذهبية ، ليتركها بمجلسه ويغطيها، وبعد ثلاث ليالٍ يعيدها للخزينة. فقال له : "أمرك سيدي، سمعًا وطاعة."
وتم الأمر كما خطط له هارون. وتمارض الملك، وجيء له بطبيب للقصر وكل أطباء المملكة، وهو ملقى على فراشه، لا أحد منهم أطلع على سبب مرضه.حتى جاءت الليلة الموعودة، أمر حارسه بأن يصرف كل الحراس من قاعة مجلسه، ثم تسلل واختبأ خلف الستارة، ولا أحد يعلم بمكانه غير حارسه وهارون. فقد هيأ له مكانًا هناك، فأمر هارون بطلب القضاة العشرة وحضورهم لأمر مستعجل .
فالتحق جميعهم بمجلس الحكم في قصر الملك، أمرهم بالجلوس، ولما عم الصمت وساد بينهم، وكل منهم ينتظر ما سيحدث، وشعر هارون بقلقهم وحيرتهم، قال لهم :
"أولًا، عليّ أن أكافئكم، فقد كنت قاسيًا معكم لسبب، أني لا أريد استبدالكم بآخرين، أنتم تتفوقون عليهم بخبرتكم وأحق منهم بممارسة مهنة القضاء." فتقدموا لكل منكم كيسًا به ألف قطعة ذهبية، وقال: "تمتعوا فيها، هي لكم." ولما أخذ كل منهم كيسه، أمرهم بالجلوس،
وقال: "كلكم تعلمون ما حل بالملك، فهو لم يعد يقوى على حكم المملكة، ولن أدع الأمور تفلت من يديّ، فدعوتكم لمبايعتي، فهذا كل ما أحتاج إليه، وقد بايعتني ودادتي وهي زوجته، وكل الجيوش وقادتها سيسيرون خلفكم، فمن منكم يبايعني الآن ملكًا، يعلن ولاءه لي." فاصطفوا وبدأوا يتقاطرون على تقبيل يديه، معلنين الولاء، وقد أثقلت أكياس الذهب مشيتهم، ولما فرغوا، دعاهم للجلوس، ولم يجلس على كرسي الحكم، بل عاد لمقعده وتنحنح بقوة، حتى أطل الملك برأسه من خلف الستارة وتبعه حارسه. فاندهش القضاة، مذهولين مرعوبين، تتلون وجوههم وتقطر جباههم عرقًا، وهم يتمنون لو أن الأرض تنشق وتبتلعهم، وهم يشعرون بخزي كبير وفضيحة لامثيل لها، ستُردف بقطع أعناقهم. تقدم الملك وأخذ مكانه فوق كرسي ملكه، قائلًا : "لقد كسبت يا هارون."
قال هارون: "يا جلالة الملك، عاهدتني أن لا تقطع رقابهم، وبعد الذي حصل، حق عليهم غيره."
قال الملك: "افعل ما أمرت به، فحكمك عادل، لا أريد رؤية وجوههم بعد الآن." وكان نصيب كل واحد منهم مائة جلدة، والدرس الذي نالوه أشد وأقسى، فلن يوالوا أحدًا بعد فاجعتهم تلك، وقد استصغر وجودهم الملك وطُويت تلك الصفحة لحفظ ماء الوجوه. فلن يوالوا بعدها إلا موازين العدل، مستأنسين بالنصوص، مستأثرين بما تدركه عقولهم من الحق المبين...
ومرت الأيام والشهور، فتخالف القضاة على هارون، وهو سيدهم وكبيرهم، قاضي القضاة، ليردوا له الصاع صاعين، فما فعله بهم لا يمكن نسيانه، وكل يوم يمر يحسبونه آخر أيامهم، وقد استصغرهم الملك وغضب منهم، ولا مكيدة ستطيح بهارون، وهو مقرب عنده. فاشتروا ذمم بعض حراس المدينة وطلبوا منهم أن لا يدعوا أحدًا من الرعية يتظلم عند هارون، وأن لا يبرحوا المداخل المؤدية لقصره. أما هو، فقد وجد بعد خروجه من مجلس الملك فراغًا كبيرًا يكفي لترجمة بعض الكتب من لغات وتأليف أخرى في عدة مجالات، فقبع بمكتبه، ترجم كتبًا في الطب والقانون وكل علوم الحياة وأشرف على بناء قصر برعاية الملك، سماه قصر المكتبة، جمع فيه من كل الكتب القديمة ما استطاع، ومن مؤلفاته الكثير، وجعله لتدريس عامة أبناء المملكة، وكان العلم قبلها لفئة واحدة، وهي أبناء الأمراء والأثرياء والأعيان، فهب له كل من رغب في تحصيل العلم. أما هو، فعاش مدرسًا ومحدثًا في كل مجلس وميعاد، عن مساوئ الجهل ومزايا العلم. حتى اصبحت المملكة قبلة للعلماء ومنارة للفكر، وازدهرت فيها التجارة وتطورت فيها الصناعة، وباتت مقصد التجار وحديث الأمصار. وبقي ثابتًا في مواقفه. فكانت فلسفة حياته أن لا يتكرر كل ما ترك أثرًا مؤلمًا في نفسه، وان لا يورثه لأحد، حتى وجد ذات صباح مقتولًا بمكتبه، وقد طُعن عدة طعنات، واستطاع وهو يفارق الحياة أن يكتب بدمه على ورقة: "قاتلي سيقتل ولي العهد"...

إرسال تعليق