مقامة عودك رنان : ضلك دق يا علي , عودك رنان .

مشاهدات



صباح الزهيري


خسر لبنان والعالم العربي أحد أبرز أعمدة الفن النقدي الملتزم , ورائدا في المسرح والموسيقى , وكاتبا جسد هموم الناس وآمالهم بكلمة صادقة ولحن لا ينسى , زياد , نجل أيقونة الغناء العربي فيروز , والملحن الراحل عاصي الرحباني , نشأ في بيئة فنية استثنائية , لكنه اختار طريقه الخاص , مبتعدا عن الأطر التقليدية , ليرسم لنفسه مسارا نقديا وفكريا جريئا , يتقاطع فيه الفن مع السياسة , والموسيقى مع الموقف , والكلمة مع الضمير , وقد نعى وزير الثقافة اللبناني الدكتور غسان سلامة على حسابه عبر منصة اكس الفنان زياد الرحباني بكلمات مؤثرة ,

كنا نخاف من هذا اليوم , لأننا كنا نعلم تفاقم حالته الصحية وتضاؤل رغبته في المعالجة , وتحولت الخطط لمداواته في لبنان او في الخارج الى مجرد افكار بالية , لأن زيادا لم يعد يجد القدرة على تصور العلاج والعمليات التي يقتضيها, رحم الله رحبانيا مبدعا سنبكيه بينما نردد اغنيات له لن تموت ,

وكتب الرئيس اللبناني جوزيف عون على منصة إكس : زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان , بل كان حالة فكرية وثقافية متكاملة , وأكثر.. كان ضميرا حيا , وصوتا متمردا على الظلم , ومرآة صادقة ,

أما رئيس الوزراء نواف سلام , فرثاه قائلا :
بغياب زياد الرحباني , يفقد لبنان فنانا مبدعا استثنائيا وصوتا حرا ظل وفيا لقيم العدالة والكرامة , زياد جسد التزاما عميقا بقضايا الإنسان والوطن , ومن على خشبة المسرح , وفي الموسيقى والكلمة , قال ما لم يجرؤ كثيرون على قوله , ولامس آمال اللبنانيين وآلامهم على مدى عقود .

تقول سلوى زكو :
لم افهمه كما ينبغي , انتمي لجيل تربى على سرديات الثلاثة الكبار عاصي ومنصور وفيروز, سرديات فيها الكثير من الاطمئنان الى ان الحياة رخية وهادئة , والقرية اروع مكان في الوجود , ثم جاء هذا الزياد ليقول لنا الفقر كافر , والمرض كافر والذل كافر , في المشهد الرحباني ترى الفلاح سعيدا موفور العافية تغني له فيروز وهو يرقص الدبكة’رومانسية تنتمي الى زمن مضى وانقضى , عاش زياد زمن الحرب الاهلية وسطوة السلاح وخراب المدن والنفوس , لم تعد القرية كما كانت ولم يعد اهلها يرقصون الدبكة بل اصبحوا يحملون السلاح , لم اتقبل زيادا وهو ينزل فيروز عن عرشها الرومانسي , ليستنطقها كلاما يشبه كلامنا اليومي حتى اصبحت (الملكة) تشبهني هي التي كانت تسطع مثل ماسة نادرة , راح زياد رحباني بعد ان وضع بصمته على زمنه القاسي , لعل مثل هذا الكلام لا يقال في المراثي , لكني كنت اريد ان اصارحكم بما في نفسي .

رسالة واحدة لا تكفي فيما بيننا وما ليس بيننا , أنت تشبه لبنان , بل ربما أنت أكثر من يشبهه , أنت مغارة جعيتة , يعتقد كثير من اللبنانيين أنك ابن لحظة بلدك ثانية بثانية أو يريدونك هكذا , وعند البعض ابن اللحظة التي تمتد في الزمن , لأنها غنت واجترحت الموسيقى والكتابة لكل حجر في بلدك , لكل ثائر ومُهمش ومُستضعف في الكون , حسب ما تعتقد أنت , وجماعتك ألأمميون , وفي الساعة التي ستُقدم فيها الأمم ما أبدعته في الكون , في اللحظة ذاتها التي يتقدم فيها لبنان ليضع أمام الجمع ما صنعه في الموسيقى والغناء , سيفرد لبنان ثلاثة أذرع , في اليمنى فيلمون وهبي وفي الكف الوسطى يصدح وديع الصافي ويتألق صوت صباح مضاهيًا العالم ببهجته , أمامهما تقف السيدة فيروز تغني سلم لي عليه , وحين يعتقد الجمع أن العرض انتهى سوف تهيج إلى أسماعهم أصوات قادمة من بعيد , يحدس كل من حضر العرض أنها موسيقاك , بعدها يظهر وجهك الساخر من كل ما حدث , في هذه اللحظة التي تُقدم فيها الأمم ما فعلت , ستظهر أنت باعتبارك صانع الموسيقى القادمة من المستقبل.

عودك رنان أغنية كتب كلماتها زياد رحباني وغنتها أيقونة لبنان فيروز عام 1985م , والطريف فيها أن المذيعة المصرية منى الشاذلي عندما التقت رحباني وسألته في أحد برامجها عن الأغنية أجاب بأنها أغنية طائفية , مؤشرا على مقطع فيها يقول ظلك دق يا علي عودك رنان , هذه الأغنية الرائعة والمثيرة هل يمكن اسقاطها على حالنا العربي اليوم ؟ خاصة مع بروز اسطوانات بأشكال متنوعة ومسمومة , فالتقسيمات والمسميات في زمن الفوضى العربية لا حصر لها , والتطاير داخل البيت الواحد أسكنه العفاريت , وبات الوسيط يكرر ذاته ويواصل مشوراه دون نتيجة , لكن السؤال , هل العودة ممكنة للوطن بعد هذا الجرح الغائر في جسد الأمة ؟ وهل الرنة ما زالت مسموعة؟

علي كما يورد رحباني يشير إلى عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية الأسبق , وكان يعود ويكرر زياراته إلى لبنان دون نتيجة , ويردد عبارته المشهورة انه يقف على مسافة واحدة من الجميع , فالتقسيم انذاك كان في لبنان مسلما - مسيحيا , وليس شيعيا-سنيا , وكلمة علي فسرها كثيرون في غير موقعها في إشارة إلى الشيعة , لكن الرمزية فيها أن الفن حي باق , وأن ألناس وخلافاتها واختلافاتها تتغير وتتبدل , وأن الاسقاطات التي ارادها كانت انتقاده لسنوات الحرب الطويلة وما حل بلبنان وشعبه , وأن ذات الاسطوانة المشروخة مكررة على السنة كبار المسؤولين وفي الشارع , والفارق الزمني هو أن الحرب الأهلية اللبنانية وضعت اوزارها في 1989م باتفاق الطائف , وانتقل الناس إلى لملمة شملهم بعد سنوات من الضياع , فالاغنية أنزلت فيروز من ايقونتها إلى الشارع بين ألناس وهو يعني كما يقول رحباني أن العودة للوطن بعد الضياع أمر لا مفر منه. زياد , ربما عرفت أن عمار الشريعي حين كان يقدم أغنية أو مقطوعة لك يقول :

الآن سوف نسمع الشرقي الذي ليس غربيًا , والغربي الذي ليس شرقيًا , زياد ده إيه , زياد ده ابن مين , ثم يسبك من فرط اعترافه بعبقريتك ,

وإلى جانب المسرح , كان زياد ملحنا ومؤلفا موسيقيا لامعا , لحن عددا من أشهر أغاني والدته فيروز , مثل سألوني الناس ,
كيفك إنت ,
صباح ومسا ,
عودك رنان ,
والبوسطة ,

وهي أغان لا تزال تردد حتى اليوم في الذاكرة الجمعية للشارع العربي , كما أصدر عدة ألبومات موسيقية ,
أبرزها أنا مش كافر ,
إلى عاصي ,
ومونودوز ,

وتميزت موسيقاه بمزج فريد بين الجاز والموسيقى الشرقية , مما جعله أحد المجددين في المشهد الموسيقي العربي , ما فعله زياد هو انضاج عبقريته في إقامة مزيج مدهش ومستحيل من الشيخ أمام والرحابنة , اشعر بفيروز , وهي في ربيعها الأخير من العمر , ان تعيش الحزن والأسى , مع ابن اخر معاق , ومع الزمن والعمر كيف هي حالتها النفسية اليوم , الله يكون في عونها , أقسى رحيل حين يدفن الاباء ابناءهم .

تعليقات

أحدث أقدم