صباح الزهيري
في خضم ثورة العشرين المجيدة , حيث هب العراقيون دفاعًا عن أرضهم وكرامتهم ضد المحتل البريطاني , انطلق أخو الشاعرة فْطيمة آل علي الظالمية وابنها نحو معركة جسر السوير , كانت تلك فترة عصيبة , تجسدت فيها روح الوحدة والتضحية في سبيل الوطن , لكن سرعان ما تحولت الفرحة إلى فاجعة , فعاد الخال وحيدًا , يحمل في عينيه حكاية الفقد الموجع , حين سألته فْطيمة عن فلذة كبدها , أجابها بمرارة شعرية :
چن لا هزيتِ وْلوليتِ ,
كلمات قليلة , لكنها تحمل في طياتها معنى الفقد الأبدي , وكأنه يقول لها : لقد انتهى كل شيء , وكأنك لم تحتضنيه طفلاً يومًا , لكن قلب الأم المفجوعة لم يستسلم لليأس , فردت بصوتٍ يعكس عمق الألم والثبات :
هزيت ولوليت لهذا ,
نعم , لقد هزت مهده وولولت عليه طفلاً , وهذا الفقد هو ثمن الحرية والكرامة .
وبعد مرور عقود, وتحديدًا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 , تكررت مأساة الفقد والضياع بأشكال أخرى , فبدلاً من محتل أجنبي واضح المعالم , تسلط على رقاب العراقيين ساسة طوائف وعرقيات فاسدون , كانوا أدوات طيعة بيد الاحتلال الجديد , هؤلاء القادة , الذين نصبوا أنفسهم حماة للطوائف والمذاهب , دفعوا بالمجتمع العراقي إلى دهاليز مظلمة من التخلف والوحشية والتخندق الطائفي المقيت , بدلًا من بناء دولة قوية وموحدة , عملوا على تمزيق النسيج الاجتماعي , وإذكاء نار الفتنة الطائفية لضمان بقائهم في السلطة وتقاسمهم للغنائم , لقد استغلوا ضعف الدولة وهشاشة المؤسسات التي خلفها الاحتلال , ونهبوا ثروات البلاد علنًا , واستباحوا سيادة الوطن واستقلاله دون أدنى شعور بالمسؤولية أو الخجل , وبسبب هذه الممارسات الخبيثة , لم يعد الكثير من العراقيين يهتمون بانتهاك سيادة بلادهم أو سرقة ثرواتهم , فقد اعتادوا على هذا الواقع المرير, وأصبحوا أسرى لصراعات طائفية وعرقية لا تنتهي .
إن الحوار الشعري بين فْطيمة وأخيها يمثل صرخة أجيال من العراقيين الذين فقدوا أحباءهم ووطنهم في خضم الصراعات والحروب , وكما فقدت فْطيمة ابنها في سبيل تحرير العراق من الاحتلال البريطاني , فقد فقد الكثير من العراقيين أبناءهم وأحلامهم في ظل حكم الساسة الفاسدين الذين جاءوا على ظهر الدبابات الأمريكية , إنها مأساة مستمرة , وجرح عميق في جسد الوطن , يستدعي منا جميعًا الوقوف وقفة جادة لمراجعة الماضي واستخلاص العبر , والعمل بجد وإخلاص لبناء عراق جديد , حر ومزدهر, يحفظ كرامة أبنائه ويصون ثرواته وسيادته . وفي العراق أيام ثورة العشرين شاركت المرأة مع الرجل في كل المجالات مثل الشاعرة العمارية انجيده ومن أشعارها :
عربيد إسم امك يا الهيبة ,
وهناك شاعرة أخرى اسمها عفته بنت صويلح أسر الانكليز ولدها وخشيت ان يتعذر من فعلته وحمل البندقية مع الثوار ضد الانكليز , وهو مارعليها مقيداً مع الانكليز فقالت له
بس لا يتعذر موش آنه ,
يعني انه يقول للانكليز أنا لست من الثوار , فأجابها ولدها
حطوني بحلكة وكلت آنه ,
أي وضعوني بفم الموت (شاهدت الموت) ولم اعتذر عن كوني ثائر, فما احوجنا في هذه الايام ايام التردي والخوف والضعف الى مثل هؤلاء الرجال الابطال وهؤلاء النسوة الصلبات المضحيات . يموت عشاق المستقبل شوقاً إلى ركن في حضن قصيدة الوطن , وعلى ناصية الشوق في بيوت تشبه فكرتهم , لم يبق من الأوطان إلا قلوب عشاقها الثوار, لتظهر بعد الأحتلال شاعرات مثل فاطمة الفلاحي التي تقول في أغتيال العراق من ديوانها رسائل شوق حبيسة المنفى :
شهدت أجندة الغرب ,
وأصابع العرب ,
غيلتك ,
فتم اغتيالك ,
أثقلتك زج الرماحفي أقلامك ,
أصابوا الطيبة فشيعوها ,
أسجفوا العشير طوائفَ ,
وأسرجوا الدستور عرقيًا لَمَّ اللهُ شعثَك ياعراق ,
بين رافديك ,
سأقف لألملم شتات ظلي ,
ونسيج الصمت في دجلة والفرات يئن الكلم في جوانحي ,
ممزوجًا بدم الأحبة ,
ووحشة الغربة ,
فقايضني الألم بحورًا ,
وحسرة تنز من الأدمة ,
ليرجع لها الصدى كلام الشاعرة غرام الربيعي :
اشتغل الغرب بتطوير حياتهم كي يعيشوا ,
واشغلونا بالعالم الأزرق ,
كي ننسى الحياة ونموت أحياء ,
افكر كثيرا في هجرة هذه الزرقة الكاذبة .
لَميعةُ فَكَّتْ شَعْرَها وتَنَهَّدَتْ وغَنَّتْ مِنَ الحُزْنِ العِراقيِّ ألحانا
إرسال تعليق