مشاهدات
د. ضرغام الدباغ
نعم ، فقد حدثني يوماً أحد مشاهير علماء النفس العرب ممن له دراسات علمية عميقة في هذا المجال، أن هناك مثل هذه العقد التي تحكم على متخذيها سلوك عصابي، وقد أفاض هذا الصديق العالم في شرح نظريته للمسألة التي أطلق عليها Leadership Sociology وله أعمال علمية بهذا الصدد، فهو يؤكد أن العديد من القادة المشاهير أصيبوا بهذه الأعراض واتخذوا قرارات مهلكة، وقد يصيب أيضاً قيادات سياسية، بفعل عوامل الفشل أو النجاح الكاسح، وتعمل العقدة على جذب أنظار القائد أو قيادة برمتها لرؤية هذا الجانب دون سواه، أو فشلاً يحيق بقيادة ما فيصيب بالإحباط أوساط القرار ومتخذيه، كما حصل للقيادات السياسية الأمريكية عقب هزيمة فيتنام . عايشنا في السجن طيلة سنوات، شخصية دينية بالغة التهذيب والأدب والاحترام، بالطبع الآن وبعد أن تصل لسن معينة، ودرجة نضج عالية، فأنك ستبدأ بفهم المواقف والاحداث بصورة أكثر ثقلاً وعمقاً، ذلك أنك ومن خلال تجاربك وقراءاتك، ستدرك، أن للأمور زوايا ووجوهاً أنت لا تشاهدها، ليس لضعف بصرك، بل بحكم أن موقعك المكاني لا يتيح لك رؤية كافة زوايا الأمر، وخفاياه. وبالتالي سماع أراء عدة سيغني فكرك ويزيدك فهماً للأمور . كان هذا الرجل الفاضل معلماً في حوزة النجف، ومشكورا أتى لي بدروس المنطق التي تقدم للتلاميذ في مرحلة الأسطح (وهي المرحلة الابتدائية في الدراسة ومرحلة الاجتهاد)، وكان بيننا الود والاحترام . دعوته مرة لشرب القهوة في غرفتي (نقولها تلطيفاُ للزنزانة)، وكنت أعمل في تأليف كتاب عن التاريخ السياسي العربي الإسلامي. وفيه كنت أتوصل لمعطيات غريبة . وحين جلس، وتناول شيء من القهوة، توجهت له بسؤال " شيخنا هناك قصة لا أفهمها بدقة، الفاطميون حكموا مصر 400 سنة، ثم أنتهى حكمهم ووجودهم بعد أن أمتد (في فترات متفاوتة) لمساحات شاسعة من تونس إلى لبنان، انتهوا وصاروا أثرا بعد عين .. ترى لماذا ..؟ بانت الحيرة على وجه محدثي ،وبدا عاجزا عن الإجابة، وحاول أن يقول لي " صلاح الدين الايوبي ..." فقلت له " شيخنا، اطال الله عمرك، لا يستطيع شخص مهما أوتي من سلطان أن يقضي على مؤسسة الدولة والدين، خلال أيام أو أشهرا معدودة، ومعنى ذلك أن هذا الكيان كان هزيلاً جداً ليتهاوى بهذه السرعة والسهولة ... إذن هناك أسباب أعمق ...!
قال لي نعم صحيح، ترى ما هو السبب ... أتعرفه ...
قلت له بالطبع، ولكني أريدك أن تفكر بالموضوع وغداً في مثل هذا الوقت نجلس ونتحدث به ..
وفي اليوم التالي جاء متلهفاً، قلت له جملة قصيرة فقط " التعاون مع الصليبيين ضد المسلمين"
صفن لحظة ، وقال "وصلت الفكرة ... ممنون دكتور "..
اليوم يكرر الفرس الغلطة التأريخية، التي ارتكبها الفاطميون / الاسماعيليون، والفرس يتعاملون مع الغرب منذ العهد الصفوي والقاجاري، والعهد البهلوي ، وإلى اليوم عهد التحالف بين نظام الملالي مع الغرب وإسرائيل . (معظم دول الغرب لا تقبل أن تحسب إسرائيل على الغرب) أو هل تؤثر العقد النفسية على قيادات شعوب ...؟ ولكن ما هي عقد الفرس ...؟ الفرس شعب صغير قديم ، يحفل تاريخه الطويل بالكثير من المنجزات والإخفاقات على حد السواء، انتصارات باهرة، وهزائم مرة، شأنهم في ذلك شأن الكثير من الشعوب القديمة ، ولكن .... تحكم الجغرافية والتاريخ أن تقع بلاد فارس في موقعها التاريخي الذي عرفت به، تحدها جبال زاغروس من الغرب لتحول بينها وبين وادي النهرين الخصيب والمؤدي الوحيد للبحر المتوسط، وجبال هندكوش من التوسع جنوباً في آسيا، وصحار وسلاسل جبال بعضها قاحلة تحول دونها وأواسط آسيا، وإمبراطوريات قوية في آسيا الصغرى (تركيا الحالية) من التوغل في ذلك الاتجاه، عدا مغامرات لم يكتب لها النجاح في كل الاتجاهات عادت بعدها لتنكفئ في محيطها الجغرافي، وتفرض عليها عزلة، ولكن عيناها ترمق الآخرين دوماً، وعبر مئات وألاف السنين حتى صار التطلع إلى ما بأيدي الآخرين عقدة نفسية، وبدل سلك أسلوب العلاقات الودية مع شعوب المنطقة، حاولت الميثولوجيا تغطيتها بالميل للأساطير وأوهام العظمة، والشعور بالنقص أصبح محركاً للبهرجة والفخامة المفرطة كمحاولة لكسب الاحترام. والفرس يرمقون بعين الحسد جيرانهم الروس والأتراك والعرب، فيحاولون التقليل من شأن الآخرين ورفع شأنهم في محاولات، بدا على البعض منها أنها بائسة مثيرة للشفقة. فوقعوا في شرك المشاكل والصراعات مع جيرانهم كافة. والتنوع الحضاري الذي هو سنة الطبيعة الخالدة، وفي سياقاته تتعلم الشعوب من بعضها، الثقافة تنتقل، والحضارة لها آلياتها الخاصة في السفر والتنقل وهي تفعل ذلك دون مراسيم إمبراطورية، لا أوامر سلطوية.
وفي خضم سلسلة لا تنقطع من المؤشرات التي لا تدل على حسن الجيرة، أغتنم الفرس كل سانحة من أجل التدخل في شؤون غيرهم ولا سيما في بلاد العرب والعراق في مقدمتها . ومن تلك الأساليب العسكرية والسياسية ولكنها دائماً بأسلوب واحد جبل عليه الفرس عبر العصور . وكما الروس يحاربون بأسلوب التمهيد المدفعي الكثيف يسبق الهجوم، ويحارب الألمان بأسلوب عرفوا به وهو الحرب الخاطفة (Blitz Krieg) وهو أسلوب الحرب السريعة الإيقاع التي تعتمد بدرجة أساسية على الآليات السريعة (دبابات سريعة، عربات نقل الجند المصفحة، مدافع ذاتية الحركة)، فيما أعتمد الفرس أسلوب زج القطعات بكثافة والتوهم دائماً بقوتهم وضعف خصومهم، وتلك أوردتهم المهالك قديماً وحديثاً، من هزيمتهم النكراء في ترموبيلي، إلى معركة سهل أربيل مع قوات الأسكندر المقدوني، إلى القادسية، معركتهم مع الجيش العثماني في جالديران . وأخيرا معركتهم الأخيرة مع العراق (القادسية الثانية) . والفرس يميلون لأسلوب المؤامرة، والتسلل، وصانع المشاكل (Troublemaker)على أساس أن الحيلة مشروعة في الحرب، والاعتماد على قوى متآمرة داخل صفوف الدولة المقابلة، ولكن التآمر أسلوب ينطوي على رذالة وخسة، وهو ما أتبعوه ضد دولة بابل عندما تآمر قائد الجيش البابلي العيلامي وأدخل جيوشهم لتحاصر القصر الملكي في بابل ، متعاونين ومتآمرين، وكذلك كررها العلقمي الذي تآمر وخان وهو رئيس وزراء دار الخلافة أيضاً لصالح المغول بنصيحة فارسية، ودخل هؤلاء بغداد عاصمة الخلافة، ولكن فقط بمعية المغول المشركين ....! متعاونين متآمرين ... ولكن من يسأل عن الخيانة وقد احترقت بغداد ... وبدرجة مماثلة كانت صلاتهم مع الصليبيين في دخولهم أراضي المسلمين، وبصورة مشابهة كانت صلاتهم مع أعداء الخلافة العثمانية أيام الصفويين، وفي كل مرة بوسع الغاز الأجنبي أن يعتمد عليهم في الحرب ضد العرب والمسلمين، ودائماً بوسائل التآمر الخسيسة . الفرس ليسوا مسلمين بالدرجة الأولى، وكذلك ليسوا شيعة بالدرجة الأولى، بل هم فرس بالدرجة الأولى، وأمامهم خريطة بلاد فارس بتنوعها العرقي والديني والثقافي، ولا بد من أحكام سيطرة الفرس على هذا الموزائيك، وهذا لن يتم(بتصورهم) إلا عبر إثارة المشاكل والتعصب الطائفي ليكون محور الحياة السياسية والثقافية في إيران وليضمن لهم بالتالي ألا تتحول بلادهم في المحيط العربي والإسلامي إلى كتلة لا تتمتع بدور مهم ويستحق الذكر ، توجه يتساوى فيه الدولة الصفوية والبهلوية الإمبراطوري والخمينية الطائفية، لذلك ينص دستورهم صراحة على أن إيران هي دولة شيعية تتبع المذهب الإثنا عشر .. وكان الشاه محمد رضا قد أستوعب درس مناكفة والده للأمريكان والإنكليز وغزله مع الألمان الهتلريين، بدواعي التعاطف مع العرق الآري، على أن ينال دوراً إقليمياً مهماً في المنطقة إن إنتصر المحور في الحرب العالمية الثانية . وكانت الدوائر الغربية قد رسمت له أن يلعب دور الحارس لمصالحها في منطقة تعج بالنشاطات المعادية للغرب . وكان الأمريكان والإنكليز قد احتلوا إيران دون أن تطلق رصاصة واحدة (ويصفهم المروجون لهم بالمقاتل العنيد)، بل وأكثر من ذلك حين اهتزت غصون الشجرة الإيرانية، فقامت جمهورية مهاباد الكردية، وجمهورية أذربيجان الشعبية السوفيتية، ولا يستبعد دور المخابرات الأمريكية في تلك المسرحية التي انتهت فيما بعد على أعواد مشانق نصبت على عجل في ساحة جوار جرا في مهاباد بتاريخ 30 / 03 /1947، بعد أن نفض الاتحاد السوفيتي يده عنها عندما أدرك أنها غدت ملعباً للمخابرات الاستعمارية. وبنهاية مماثلة تقريباً لجمهورية اذربيجان الشعبية وكان هذان الكيانان قد نهضت بدعم من السوفييت . والمتتبع لتاريخ إيران الحديث، يرى أن الأحداث تتكرر بشكل مثير بما يدعو حقاً عامة الناس أن تطلق عبارتها الشهيرة " التأريخ يعيد نفسه ". وكان نظام مصدق التقدمي الديمقراطي قد أسقط بواسطة رعاع وزعران طهران ولم تكن حركة الجنرال زاهدي (1954) سوى طلقة الرحمة في نظام مصدق الذي زعزعته حقاً ويا للدهشة حركة الرعاع من مدلكي الحمامات ومصارعي الزورخانات، وعاد بفضله الشاه محمد رضا البهلوي ملكاً على العرش. وبفضل انقلاب الجنرال زاهدي المقرب من أوساط السفارة الامريكية، الجيش الإيراني الذي تغلغلت أيادي الأمريكان في كل زواياه. لحد الآن لم نقل أن التاريخ يعيد نفسه ...! والد الشاه أعتقل ونفي إلى جنوب أفريقيا ثم عاد بطريقة ما إلى القاهرة ليموت ويدفن فيها، وتدور دورة التاريخ لتتحول ثورة عام 1979 من أجل الديمقراطية أطلقتها البورجوازية الإيرانية ونقابات العمل، إلى حركة ملالي .. لماذا ...؟ لأنه كان المسموح الوحيد والطريق السالكة إلى دور إيراني كان الأمريكان يخططون له منذ نهاية حرب تشرين / أكتوبر / 1973، وليتشابه التاريخ في فصوله لدرجة عجيب، حين يلفظ الشاه محمد رضا بهلوي أنفاسه في القاهرة ويدفن لجوار ابيه.
هل يعيد التاريخ نفسه ..؟
كلا بالطبع.. ليس هكذا على الأقل، ولكن ...المعطيات تتشابه، الأطماع الاستعمارية هي واحدة، مناهضة رغبة شعوب المنطقة في التحرر وبناء الذات بعيداً عن الهيمنة الغربية، وفي ذلك لهم أدواتهم المعدة سلفاً، أو تلك المستعدة دائماً لتلقف أي دور يسند لها من أجل شيئ أو لا شيء وهنا لعبت إيران بقيادة الملالي دورها المرسوم بعناية فائقة، فهي قادرة على تجنيد عناصر لها في المنطقة، وأضعاف الولاء الوطني والقومي، مقابل إثارة النعرات الطائفية، والمخابرات الغربية قادرة بدورها على اتخاذ الأقليات متكئا لهم وأدوات وقنوات يتسربون من خلالها ... بداعي كلمة سحرية هي .. الديمقراطية وحقوق الأقليات . ومن يرتضي دور الأجير أو المشارك بالتبعية لا يسأل عن التفاصيل، رغم أن زبدة الموضوع وجائزته تكمن في التفاصيل.. ولماذا يسأل عن التفاصيل.. ؟ ثم أيحق له السؤال عن التفاصيل.. ؟ وفي العراق مثل لا يخلو من البشاعة نقوله هنا بأسف ولكن للضرورة أحكام : الحمار يموت بأجرته. الأجير يقبل أن يقوم بالدور مقابل أجر يتناوله نقداً وعداً، دون أن يسأل ماذا ولماذا ...؟ وقد سن الكونغرس الأمريكي عام 1992 قانون سمي بقانون (تحرير العراق) يتناول بموجبه عددا من الأحزاب العميلة والشخصيات السياسية العراقية رواتباً من المخابرات الأمريكية والقائمة معروفة وقد نشرت أكثر من مرة، وبالإضافة لذلك فهناك عدد من الشخصيات السياسية التي تعتبر نفسها أصيلة في العراق يقبض قادتها سراً من وكلاء الأمريكان في المنطقة الشمالية ويوقعون كالعادة على سجل الرواتب لتبقى رقابهم أوهى من خيط العنكبوت. (وقد نشرت مرة قائمة رواتبهم ... ياللمهزلة).عقدة الفرس أنهم لا يجيدون إدارة الأزمة السياسية والصراع السياسي إلا بوسائل التآمر، والعملاء ، وعندما لا يطيقون إحراز مكتسب سياسي أو عسكري يلجأون إلى قوى أكبر منه ويقبلون الانضواء تحت قيادتهم للتكتل السياسي / العسكري والقبول بدور ثانوي مساعد . وعندما تكرر قيادة معينة سلوكها السياسي تحت وطأة عقدتها التي تحكمها، يقول الناس في هذه الحالة إن التاريخ يعيد نفسه ...! وفعلاً يعيد الفرس أسلوب تدخلهم وتحرشهم في بلاد الرافدين مرة أخرى عن طريق التآمر والدخول بمعية الأجنبي والقبول بدور المقاول الثانوي أو ممثل الكومبارس ، ثم يثير المتاعب عند توزيع الحصص ليريد أكثر ما يستحق، فيتلقى لطمة تعيده إلى صوابه، ويبدأ بإطلاق فنون الكلام والتعبيرات المزخرفة لتخفيف الفشل على نفسه ..! الفرس كالفأر المذعور الذي يخرج رأسه الصغير من جحره . يتلفت يميناً وشمالاً مرة ومرتين وثلاث.. إلى أن يتأكد أن الأسد قد وقع جريحاً (وليس صريعاً كما يتوهم) ويبدأ بالمنفخة وتمثيل دور البطل الرئيسي، وهو ما فعله حقاً مرة أخرى عندما دخل بغداد من أبوابها الخلفية ومن الشبابيك المنسية كحارس للدبابات الأمريكية.. وما يدور الآن بين أطراف التحالف هو خلاف على المغانم على الأرض ..! للمرة الثالثة أو الرابعة ... نقول كوم حجار ولا هذا الجار.. هكذا يقول المثل العراقي ولكن أسود الرافدين سيفعلوها كما في كل مرة.. سيحررون بلادهم من المقاول الرئيسي، أما المقاولين الثانويين، فسيطلقون سيقانهم للريح عندما يسمعون صوت الزئير ...سيفعلها التاريخ مرة أخرى ... كالعادة

إرسال تعليق