مقامة المطارف والحشايا :

مشاهدات


صباح الزهيري


يأسرني صاحبي الثمانيني بنشره المكثف , ويغريني بمحاورته , كتب على صفحته : صورة بالغة التعقيد لم يصنعها الا المتنبي , كانت الحمى الشديدة تأتيه ليلا ويقول :

وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور الا في الظلام , بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي ,

الصورة المعقدة :
اراقب وقتها من غير شوق مراقبة المشوق المستهام , اعتقد إنه هنا يصف البردا او الملاريا بعد ان اصيب بها , أما المطارف والحشايا فهي الوسائد والفراش , وبنات الدهر فهي المصائب والملمات , وقد قال ابن الشجري عن أبي الطيب المتنبي :

فمن بدائعه قوله في الحمّى:
وزائرتي كأنّ بها حياء …
فليس تزور إلاّ في الظّلام بذلت لها المطارف والحشايا …
فعافتها وباتت في عظامي , المطارف : جمع مطرف , ومطرف , وهو الذي في طرفه علمان , والحشايا : جمع حشيّة , وهو ما حشي ممّا يفرش .

يُعد أبو الطيب المتنبي قامة شامخة في سماء الشعر العربي , ولا يزال شعره حتى يومنا هذا يثير الدهشة والإعجاب بما يحمله من قوة في التصوير وعمق في المعنى , ومن بين الصور الشعرية البالغة التعقيد التي أبدعها هذا الشاعر الفذ , تبرز أبياته التي يصف فيها الحمى التي كانت تلم به ليلاً زائر الليل المستحي , حيث يجسدها في صورة زائر مستحي لا يأتي إلا في الظلام , فيا له من تصوير بديع , لقد بلغ المتنبي حقًا ذروة الإبداع في هذه الأبيات , وهذا التصوير الفريد , حيث استطاع أن يجسد الحمى الشديدة في صورة كائن حي زائر, بل ويضفي عليها صفة الحياء الذي يدفعها للمجيء في جنح الظلام , هذا التجسيد البديع يجعلنا نشعر بوطأة المرض وكأنه ضيف ثقيل الظل يتسلل في سكون الليل , وفي هذا المقطع الشعري القصير , يرتقي المتنبي بتجربته مع الحمى إلى مستوى فني رفيع , فبدلاً من وصفها بشكل مباشر كعارض صحي , يمنحها شخصية إنسانية كاملة الأوصاف , إنها زائرتي , أي ضيفي الذي يحل عليّ , ولكنها ليست كأي زائر , إنها تحمل صفة الحياء , وهي صفة إنسانية نبيلة تجعلها تتجنب الظهور في وضح النهار وتفضل سكون الليل وظلامه .

إن هذه الأبيات القليلة تحمل في طياتها عمقًا في التصوير وبراعة في التشبيه , لقد استطاع المتنبي أن يحول تجربة الألم والمعاناة إلى عمل فني بديع , يجسد قوة اللغة الشعرية في التعبير عن أدق المشاعر وأصعب التجارب الإنسانية , إن صورة الحمى كزائر الليل المستحي ستبقى خالدة في ذاكرة الأدب العربي , شاهدة على عبقرية المتنبي وقدرته الفائقة على الخلق والإبداع , ويكشف هذا التصوير عن براعة المتنبي في استعارة الصفات الإنسانية وتوظيفها لتجسيد المفاهيم المجردة كالأمراض , فالحمى , بحرارتها المتقدة التي تسلب الإنسان قوته , تُصوَّر هنا كزائر خجول يتسلل في هدوء الليل , ولكنه في الوقت نفسه ضيف ثقيل الوطأة , ويستمر المتنبي في هذا التجسيد البديع , وهنا , يصور الشاعر محاولاته للتخفيف من وطأة الحمى , حيث يقدم لها المطارف والحشايا , وهي الأغطية والفرش الوثيرة التي تُستخدم للتدفئة والراحة , ولكن هذا الزائر المستحي يرفض كل مظاهر الترحيب والراحة , ويختار بدلاً من ذلك أن يستقر في عظامي , أي في أعماق جسده , ليؤكد بذلك على شدة تأثيرها وتغلغلها .

أصيب المتنبي بالحمى وهو يستعد للرحيل عن أرض مصر , والخوض في متاهات الصحراء , مولياً وجهه لهجيرها وتقلبات أجوائها , ووطء الحمى التي تصهر جسده , وهي المرحلة التي أرخت لبداية نهاية اختلافه مع كافور الأخشيدي , بعد أن مل كل الوعود المؤملة الكاذبة , والتسويفات الوهمية , واستنفذ كل أمل له في الحصول على ولاية أو إمارة, وقالها في الحمى التي تسمى أحيانا زائرة الليل , لأن ضراوتها تشتد وأعراضها تمتد أثناء الليل , وقد أصيب المتنبي أحد أكثر شعراء العرب شهرة بالحمى الشديدة فشكا منها , وبكى بأربعة سجام , كان الشاعر مزمعا على الرحيل من مصر في ذي الحجة عام 348 , وعمره نحو 45 عاما , وذلك قبل وفاته بنحو ست سنوات , وهاجمته الحمى بضراوتها وارتفاع حرارتها وتقلب مزاجها , فحاول أن يصف أعراضها بأسلوب شعري رائع , فكانت قصيدته في اثنين وأربعين بيتا , حيث تبدأ قصة الحمى في القصيدة من البيت السابع عشر , يقول :

أقمت بأرض مصر فلا ورائي...
تخب بي المطى ولا أمامي ,

ثم يقول :
وزائر تي كأن بها حياء...
فليس تزور إلا في الظلام ,

ولم تخل قصيدته من إشارة جانبية إلى كافور الإخشيدي والي مصر , الذي تسبب في رحيله عن مصر , التي كان يحاول أن يحقق فيها آماله وطموحاته , وكان المتنبي يقاوم الارتفاع الشديد في درجة حرارة جسمه , وشعوره أحيانا بالبرد والارتعاش , كان يحس بجفاف حلقه وبالعرق الغزير يتصبب من جسده العليل , وصف المتنبي الحمى وكأنها فتاة يناجيها بشعره , ويحاول أن يتحداها بأسلوبه الدرامي , وقصيدته التي يتداولها الناس منذ القديم عن مرض الحمى من القصائد الجميلة التي ترسم بعض الملامح الواضحة عن طموح ذلك الشاعر الطموح وتحديه للمرض ولمصائب الدنيا وأحداث الحياة , والخلاصة من القصيدة أن الشاعر لم يتخل عن طموحه وعزيمته رغم المرض , وأن كل شيء في اعتقاده مصيره إلى الفناء . ويحكى عن المتنبي أنه قال :

كنت إذا دخلت على كافور وأنشده يضحك إليَّ ويبش في وجهي , حتى أنشدته هذين البيتين , فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا , فعجبت من فطنته وذكائه , والبيتان هما :

فلما صار ود الناس خبا جزيت على ابتسام بابتسامِ
وصرت أشك فيمن أصطفيه لعلمي أنه بعض الأنامِ .

تعليقات

أحدث أقدم