مشاهدات
صباح الزهيري
يرميها المندلاوي الجميل ويمشي , سؤال نشره على صفحته : القرب يقصد ام البعد ؟ قال المتنبي :
فياليت مابيني وبين احبتي
من البعد ما بيني وبين المصائب ,
وقد فسرها المعري بقوله :
ليت ما بيننا من البعد الحاصل ,
كان بيني وبين المصائب ,
أي يعني : ليت الأحبة قريبة مني والمصائب قد بعدت ,
واللغة خزان عقول الأمم , فيها تنبت الأفكار وتترعرع , وبها تتنقل بين الناس , اللغة كائن حي فاعل ينمو باستمرار , ويتطور مع مسيرة الحياة , والعربية من اللغات التي عاشت , وبقيت حية ورافقت العرب المسلمين في امتداد فتوحاتهم الواسعة , وتعلمتها شعوب كثيرة وصارت لغتها الوطنية . يحمل ابو الطيب المتنبي , ذو النزعة العروبية الواضحة كل الوضوح في شعره , وقد تلقى دروساً في علم الأذواق والأحوال والمقامات والمجاهدات , على يد ابو علي هارون بن عبدالعزيز الأوراجي ( حسب ماسينيون ) , المقيم في ناحية من نواحي لبنان , قد تكون في بعلبك وقد تكون في الساحل , ولم تحدد كتب التراث أو ديوان المتنبي مكانه بالضبط , ولكن الأكيد أن المتنبي لقي أبا علي هارون بن عبدالعزيز في لبنان , وأقام في كنفه , ولزمه مدة من الزمن قبل ان يعود الى مهنته الأساسية وهي السفر من مكان إلى آخر , مما يؤكد لبنانية المتنبي وكونه عرج إليه مراراً , وأقام فيها , وعرف مواصفاتها الطبيعية , ابيات له من قصيدته اليتيمة التي مدح بها الأوراجي وهي التالية :
بيني وبين ابي علي مثله شم الجبال ومثلهن رجاء , وعقاب لبنان وكيف بقطعها وهو الشتاء وصيفهن شتاء ,
لبس الثلوج بها علي مسالكي فكأنها ببياضها سوداء , وكذا الكريم اذا أقام ببلدة سال النضار بها وقام الماء ,
ويقصد المتنبي ان الجبال العالية الشماء تفصل بينه وبين ابي علي , وهذه الجبال مكسوة على الدوام بالثلوج سواء في الصيف أو في الشتاء ولهذا يتعذر على المسافر أو على الزائر قطعها .
أن من أهواه ينأى عني ,
ومن أبغضه يقرب مني ,
لسوء صحبة الدهر أياي ,
كما قال لطف الله بن المعافى ,
أرى ما أشتهيه يفر مني ,
وما لا أشتهيه إليّ يأتي ,
ومن أهواه يبغضني عنادا ,
ومن أشناه يشبث في لهاتي ,
كأن الدهر يطلبني بثارٍ ,
فليس يسره إلا وفاتي ,
فيا ليت ما بيني وبين أحبتي من البعد ما بيني وبين المصائب ) ,
ويا ليتهم واصلوني مواصلة المصائب ,
وليتها بعدت عني بعدهم ,
كما قال أيضا :
ليت الحبيب الهاجري هجر الكرى ,
من غير جرمٍ واصلي صلة الضنا ,
أراك ظننت السلك جسمي فعقتهِ
عليك بدرٍ عن لقاء الترائب ,
وهنا أراد بالسلك الخيط الذي ينظم فيه الدر , وفي البيت تقديم وتأخير لأن المعنى :
فعقته بدر عليك ,
يقول لعلك حسبت السلك في دقته جسمي فمنعته عن مباشرة ترائبك , بأن سلكته في الدر يشكو مخالفتها إياه وزهدها في وصاله , والمعنى ميلك إلى مشاقتي حملك على منافرة شكلي , حتى عقت السلك عن مس ترائبك بالدر لمشابهته أياي في الدقة , وفيه يقول :
أَعيدوا صَباحي فَهوَ عِندَ الكَواعِبِ ..
ورُدّوا رُقادي فَهوَ لَحظُ الحَبائِبِ ,
قال البرقوقي :
الكواعب : جمع كاعب , وهي التي بدأ ثدياها للنهود , والحبائب : جمع حبيبة ولحظ الحبائب أي رؤيتهن ,
يقول :
أصبح دهري ليلاً كله بعد ظعن الأحبة ,
فليس هناك صباح إلا بردهن ,
وقد نفي عني الكرى فلا رقاد إلا برؤيتهن ,
والمعنى ردوهن علي حتى يرتد صباحي ورقادي ,
فَإِنَّ نَهاري لَيلَةٌ مُدلَهِمَّةٌ ..
عَلى مُقلَةٍ مِن بَعدِكُم في غَياهِبِ ,
وهذا البيت كالتعليل لما ذكره في البيت السابق , ويقول :
لما رحلتم لم أبصر بعدكم شيئاً : أي بكيت حتى عميت , فآض نهاري ليلاً حالك السواد
بَعيدَةِ ما بَينَ الجُفونِ كَأَنَّما ..
عَقَدتُم أَعالي كُلِّ هُدبٍ بِحاجِبِ ,
أي , تباعد ما بين أجفان عيني فلا يلتقي الجفنان , فكأن أعالي أهداب الجفون معقود بشعور الحاجب فلا ينطبق ,
وأَحسَبُ أَنّي لَو هَويتُ فِراقَكُم .. لَفارَقتُهُ والدَّهرُ أَخبَثُ صاحِبِ ,
وقد قال المعري :
أي من عادة الدهر مخالفة هواي ,
فلو كنت أهوى أني أفارقكم لفارقت الفراق وواصلتموني ,
ثم ذم الدهر وقال :
الدهر أخبث صاحب للإنسان ,
لأن كل صاحب خالفك فهو خبيث ,
والهاء في (فارقته) للفراق .
يقول:
أظنك حسبت السلك الذي في قلادتك جسمي لمشابهته إياه في الدقة فحلت بينه وبين ترائبك بالدر المنظوم فيه لئلا يلامس صدرك , أي أن ولوعك بمشاقتي حملك على منافرة كل ما يشاكلني , يشكو مخالفتها إياه ورغبتها عن وصاله وهو من معاني المتنبي البديعة :
ولَو قَلَمٌ أُلقيتُ في شَقِّ رَأسِهِ ..
مِنَ السُّقمِ ما غَيَّرتُ مِن خَطِّ كاتِبِ ,
قال البرقوقي : يعني لشدة سقمي نحلت حتى لم يبق لي جثمان يحس به فلو ألقيت في شق قلم , لم يتغير بي خط كاتب , وهذا من مبالغات الشعراء , وقد افتنوا في هذا المعنى كل الافتنان فمن ذلك قول بعضهم :
ذبت من الوجد فلو زج بي في مقلة الوسنان لم ينتبه
وقول الآخر :
فاستبق ما أبقيت لي فلعلني ..
يوماً أقيك به من الأعداء .
تُروى في أسباب تصوف أبن الفارض حكاية جاء فيها أنَّه دخلَ يوما المدرسة السيوفية في القاهرة , فرأى شيخًا لا يُحسن الوضوء , فعاب على الشيخ فعلَه , فطلبَ منه الشيخ مخاطبًا إياه باسمه أن اتركْ مصرَ واقصد الحجازَ فلن يفتح الله عليك في مصر, تعجَّب ابن الفارض من معرفة الشيخ باسمه وهو يلتقيه أولَ مرة , فأشار الرجل بيديه فأبصرَ ابن الفارض مكةَ أمامه , فقصدها ودخلها في حينها , انقطع ابن الفارض في شعاب مكة خمس عشرة سنة سائحًا في وديانها وجبالها , ثم سمع يومًا صوت الشيخ يناديه ويطلب منه العودة إلى مصر ليحضرَ وفاته ويصلِّي عليه .
عزيزي المندلاوي الجميل : عندما تشعر أن نبضات قلبك بدأت تتزايد عندما يقترب أحدهم من محيطك .. إرحل , عندما تشعر بأنك تغار على أحدهم دون سبب منطقي .. إرحل , عندما تبدأ التلعثم بالحديث مع أحدهم .. إرحل , عندما تشعر بأن فلان مختلف .. وأن القصة مختلفة .. أرحل , صدقني إنه الوقت المناسب لمغادرة المكان بسلام .. ربما تكون الفرصة الأخيرة للسلام , أنت لا تمتلك قدرة على عضلة قلبك , ولكن بإمكانك تحريك عضلات قدميك وبإمكانك أن تلوح بيديك مودعاً .. إياك وميل القلب .
إرسال تعليق