مشاهدات
د. محمود خالد المسافر
تأخذ البعض من ابناء أمتنا العربية والإسلامية نخوة إسلامية تجاه الصراع الدائر الآن بين الهند وباكستان، فيظنونه كلما اشتعل على أنه حرب اسلامية هندوسية. وهذا بالضبط ما تريد المؤسسات الدولية الحاكمة وأدواتها الإعلامية الدولية والمحلية أن تظهره ، من اجل تمرير ما وراء الصراع من أهداف ومخططات . إذ تقول الهند ان الباكستان ترعى حركات إسلامية متشددة تستهدف غير المسلمين ، ويتبنى هذا التبرير عدد كبير من الدول والمجتمعات التي تعاني من فوبيا الاسلام، بينما تقول الباكستان ان السبب هو طول وقسوة الانتهاكات الهندية للمسلمين في الهند وعلى طول خط الصراع في كشمير التي فشلت كل الجهود الدولية وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة في حلها. ويتبنى التبرير الباكستاني المجتمعات الاسلامية وبعض الهيئات غير الحكومية ولا تتبناه الدول الاسلامية بشكل قوي الا في حضور ضعيف لهذا الصراع على طاولة اجتماعات منظمة التعاون الاسلامي .
لا يمكن بالطبع أن ننكر حقيقة أن تقسيم الهند البريطانية، (المتكونة من الهند وباكستان وبنغلاديش وبورما وسريلانكا) عام 1947 إلى الهند وباكستان (المتكونة بدورها من باكستان وإقليم البنغال الذي تحول الى بنغلادش بعد استقلالها عن باكستان في عام 1971)، بنيّ اساسا على أسباب دينية . كما لم تكن ولادة الهند وباكستان عن الأم الشرعية وهي الهند البريطانية (اي المحتلة من قبل بريطانيا) طبيعية بل كانت قيصرية رافقتها احداث قتل وتهجير وتطهير عرقي ساهمت بها كل الاطراف، ولعب المهراجات وملاك الأراضي دورا كبيرا ومحوريا في تلك الاحداث، فقد أشرفوا على عمليات التطهير العرقي وتهجير المواطنين عبر الحدود. وترك ذلك التقسيم جراحا عميقة وآفات اجتماعية خطيرة لم تلتئم الى يومنا هذا. لقد حولت بريطانيا العجوز فرحة استقلال الهند وباكستان من الاحتلال البريطاني في يومي 14 و 15 آب/ اغسطس من عام 1947 إلى حزن شديد ومناظر مذهلة من الدماء ومشاعر الكراهية والانتقام مما دعا الزعيم الهندي غاندي إلى الإضراب عن الطعام حتى يتوقف العنف. توقف العنف ولم تتوقف الكراهية، هذا ما زرعته بريطانيا في مخلفات الهند البريطانية من أجل أن لا تكون هناك قوى كبيرة في المنطقة تهدد المصالح الغربية . واقول هنا واؤكد ان هذا الصراع ليس دينيا، بل هو سرطان خبيث زرعته بريطانيا لإسقاط أية محاولات جديدة لصعود أقطاب دولية لإعادة التوازن في المنطقة والعالم . ولعل الكثير من القراء اليوم لا يعلمون أن كبار الجنرالات الهنود والباكستانيين الذين أداروا الحرب والصراع المستمر بين الهند وباكستان على مدى أكثر من خمسين عاما بعد التقسيم كانوا رفاق سلاح في جيش واحد وهم خريجوا مدرسة عسكرية واحدة ويؤمنون بعقيدة عسكرية واحدة، ولكن وبعد أن حصل التقسيم تحولوا إلى أعداء يتبادلون نفس مشاعر الكراهية والحقد والرغبة في الانتقام .
أنها بريطانيا ايها السيدات والسادة، لا تنظروا إلى الشاشة الصغيرة أمامكم والتي تظهر استفزازات ومناوشات وتفجيرات وتصريحات وتهديدات متبادلة بين الهند وباكستان، بل انظروا الى ما وراء الشاشة ، لأن هناك شاشة اكبر فيها خارطة العالم وتتضح فيها مناطق النفوذ ومحاولات الصين لتغييرها ومخططات الغرب لافشالها . وتظهر الشاشة الكبيرة كذلك لاعبين صغار هنا وهناك ينفذون أجندات الغرب والشرق من حيث يعلمون ولا يعلمون . تذكروا دائما أن الباكستان هي الحاوية الصغيرة الوحيدة التي تحمل السلاح غير التقليدي للمسلمين، وهو ما ينبغي دائما السيطرة عليه حتى لا يخرج عن دوره التقليدي في الردع ومن دون التجاوز إلى مرحلة فرض الأمر الواقع. وان من أهم الضمانات لتحقيق محدودية التأثير هو وجود طبقة سياسية فاسدة وقادة جيش تربوا في الكليات الحربية البريطانية وامنوا بعقيدة عسكرية لا تخصهم ولا تمثلهم . ولا تنسوا كذلك الهند تلك القوة الشرقية التي دائما ما تبحث عمن يدفع اكثر لتتخلى عن دورها المحوري الذي تحتمه عوامل الديموغرافيا والجيوبوليتيكيا، فهي الوريث الحقيقي للتاج البريطاني في الشرق، ولكن بريطانيا والغرب لا يرون في الهند الا ما كانوا يرونه قبل قرنين، مصدر رخيص للموارد البشرية والمادية. حاولت الهند كثيرا الخروج من هذا الدور، ولكن أمنياتها كانت دائما ما تصطدم بنخب سياسية فاسدة تربعت على عرش السياسة الهندية ولفترة طويلة . نحن أمام حالة جديدة من الحروب بالإنابة By Proxy وأهدافها تتجاوز هدف تحييد القوتين أو ما اُصطلح على تسميته بسياسة الاحتواء المزدوج، ولا هي صراع على الحدود، أو حرب دينية كما يريدون أن يظهروها لنا، بل هي محاولة اشغال العالم في وقت حرج جدا عن احداث أخرى تحدث في مناطق أخرى منه . وهي ايضا لوضع جدار من الكراهية بين الأديان المختلفة (البوذية والهندوسية والاسلام والسيخية وغيرها) التي يسكن اصحابها على طول طريق الحرير الذي يمثل اخر امل للصين لتتحول من قوة إقليمية إلى قوة عظمى .
إرسال تعليق