مشاهدات
د. ضرغام الدباغ
صباح يوم الجمعة، 30 / أيار / 1975، كان يوم مغادرتي لبغداد متجهاً إلى برلين / عاصمة ألمانيا الديمقراطية، للالتحاق بوظيفتي كمستشار في سفارة الجمهورية العراقية. أوصلني الوالد رحمة الله عليه بسيارته، إلى مطار بغداد .
في مدخل المطار ، فوجئت بالصديق والرفيق علي صالح السعدي، أبو فارس رحمة الله عليه، وكان معه السيد عبد الجبار محسن، وكان في تلك الفترة موظفا في وزارة الاعلام .. وأتجه السعدي نحوي باسطا ذراعيه ضاحكاً وهو يقول بلهجته البغدادية " عيني .. اللي ما يجي وياك ... تعال وياه " عاتباً لأني لم أزره خلال الشهور المنصرمة، إذ كنت أعلم جيداً أنني تحت العدسة المكبرة، وسوف تؤول كل زياراتي لرفاقنا القدماء القياديين ومنهم الرفيق السعدي، وأنا أدرك أن إقامتي ببغداد حرجة، ويستحسن أن أنهيها بسلام، دون شبهات وأقاويل، بالسفر إلى المانيا حيث جرى تعيني هناك بتوجيه مباشر من الرفيق صدام حسين رحمه الله . تعانقنا أنا والرفيق السعدي، وهو أدرك بالطبع، سبب عدم زيارتي له، بكلمة واحدة قلت له " أبو فارس .. أنت تعرف الأجواء "، وبالطبع هو يعرف الأجواء وأفضل مني، ثم سلمت على عبد الجبار محسن ومكثنا بضعة دقائق نتحادث، ثم ودعنا بعض، ولم نكن نعلم أنه اللقاء والوداع الأخير .
وبعد إنهاء شحن الحقائب للطائرة، وتوديع الوالد والعائلة، التقيت الرفيق سعدون شاكر الذي جاء لتوديعي أيضاً، ومكث معي حتى إقلاع طائرة الخطوط الجوية العراقية وكانت ترايدنت البريطانية الصنع، ممتازة لجهة الراحة والسرعة (قطعت المسافة بين بغداد وبرلين ب 4 ساعات) والخدمة الممتازة على متن الطائرة الي هبطت في براغ التي تبعد عن برلين 45 دقيقة طيران فقط . أخيرا نحو عصر ذلك اليوم الجميل، (هناك فرق في التوقيت بين بغداد وبرلين قدره 1 ساعة) هبطنا في برلين / مطار شونفيلد التي لم أكن قد زرتها من قبل، لم يستغرق معاملات الخروج سوى دقائق، والتقيت لأول مرة بصديق نعرف بعضنا من خلال العمل الحزبي، هو الأخ المرحوم عبد الله غركان الحصونة، الذي كان مديراً لمكتب الخطوط الجوية العراقية في برلين، أستقبلني بود ومشاعر صداقية رفاقية، وحللت في فندق أنتر دي ليندن وهو فندق ممتاز ولكنه سيزال بعد الوحدة الألمانية وسيشيد مكانه عدة منشئات ومولات تجارية، أقمت في هذا الفندق لمدة شهرا كاملا ريثما هيأت لي وزارة الخارجية الألمانية سكناً لي سكناً ممتازا في قلب برلين.
في برلين كان في برج برلين الذي كان من معالم المدينة وكان ثالث أعلى برج في العالم بأرتفاع يزيد عن 350 متراً، والغريب أن أصدقاء دعوني للعشاء في نفس المطعم في اليوم التالي، ولم أدخل البرج منذ لك اليوم ولحد الآن ...! في برلين إذن التي لم تكن معلوماتي عنها تتجاوز الثقافية العامة، ولكني وجدتها أجمل مما كنت أتصور، وأكثر عمقاً، مدينة حافلة بالمؤسسات الثقافية، جامعتان، ومعاهد، وعشرات المتاحف، ودور الاوبرا، والمسارح، والمكتبات، منها مكتبة الدولة التي كانت تضم آنذاك، 33 مليون كتاب، ومن يبحث عن الثقافة فليعلم أنه دخل بحر برلين الذي لا ضفاف له. وفي السفارة بدأت من اليوم الأول تعلم أوليات المهنة، وتعليمي القانوني والجامعي وثقافتي السياسية، كانت تساعدني، ولكن الدبلوماسية صرح هائل، تستحق منك جهداً كبيرا جداً، وانتباه لا تفوتك ملاحظة، ولا شاردة ... ومنذ الأسبوع الأول دخلت في أعماق المهنة، في بحث عن القواعد القانونية للاتفاقيات القنصلية، وهكذا منذ الأيام الأولى بدأ العمل بكل جد واجتهاد. ومنذ الأيام الأولى، بدأت بتعلم اللغة الألمانية التي لم أكن أعرف منها حرفاً واحداً، ولم يكن في خلدي بشكل مطلق أنني سأترجم عشرات الكتب للعربية، وأنني سأقيم في برلين سنين طويلة اليوم 50 عاماً مضى على يوم نزولي في مطار برلين لأول مرة ... في ألمانيا درست وتعلمت، وحين أصبت إصابات خطيرة، عولجت في مستشفيات راقية، وأنقذت من الموت باعجوبة، وعشت سنوات حافلة بالمنجزات العلمية، وأشعر بالامتنان العميق لهذا البلد .
إرسال تعليق