الدور السلبي الصفوي للمراقد الشيعية

مشاهدات



د. حسين المؤيد


لم تكن مراقد  أئمة الشيعة في العراق قبل قيام الدولة الصفوية في إيران ، إلا كسائر مراقد الأولياء والعلماء من حيث البناء والزائرون ، ربما ميزها عن غيرها انتساب المدفونين فيها الى آل البيت ، دون أن يتحول هذا التفاوت الى حالة استثنائية أو طقوسية ، ودون أن يحدث ذلك فرقا في طبيعة العمران والسكان في أماكن وجود هذه المراقد. كانت النسبة الأكبر من الزائرين لهذه المراقد هي لأهل السنة والجماعة لا سيما بعد تأثر المجتمعات السنية بموجة التصوف الطرقي . وأما الشيعة الإثنا عشرية فلم يكونوا عددا يشار اليه سواء في العراق أو في العالم الإسلامي ، وكان الزيدية والإسماعيلية أكثر عددا وشوكة من الإثني عشرية ، لكن لم يكن لهم ذلك الإنتشار في العالم الإسلامي وانحصر تواجدهم في أقاليم معينة من العالم الإسلامي ، ولم يكن العراق من تلكم الأقاليم التي احتضنت الوجود الشيعي الزيدي أو الإسماعيلي . ولا يذكر التاريخ اهتماما خاصا يستوقف النظر من الشيعة الزيدية أو الإسماعيلية بالمراقد الموجودة في العراق . كانت إيران بشكل عام سنية العقيدة ، وكانت حواضرها الكبرى مثل إصفهان وشيراز وخراسان ويزد وتبريز من أهم حواضر أهل السنة ، وكان للشيعة الزيدية وجود في بعض الأقاليم مثل سمنان وفيروزكوه شمالي إيران ، وكان هناك وجود محدود للشيعة الإسماعيلية جنوب بحر قزوين . و أما الشيعة الإثنا عشرية فلم يكن لهم وجود يذكر في إيران سوى في منطقة قم وكاشان ، حيث كانتا مركزين لجمع من قبائل أشعر ونخع وهي قبائل عربية يمنية كانت في الكوفة وشاركت في خروج ابن الأشعث على الدولة الأموية وانهزمت على يد الحجاج ، وهرب الكثير منها من العراق حتى وصلوا الى الحدود الغربية لصحراء كوير في منطقة كمندان التي تسمى اليوم قم وأسسوا مدينتي قم وكاشان في مكان سبع قرى إيرانية  بعد تشريد أهلها ، واجتمع اليهم  بنو عمهم . وهؤلاء العرب الذين أسسوا قم وكاشان كانوا شيعة إمامية شديدي العداء للسنة .  قامت الدولة الصفوية في إيران سنة 1501 م ، وكان إسماعيل الأول أول حكامها وهو الذي فرض بقوة السيف والإضطهاد الديني ، التشيع الإثني عشري على الإيرانيين بمن فيهم الشيعة الزيدية و غيرهم ، وأرسل سنة 1508جيشه المعروف بالقزلباش للإستيلاء على العراق فدخل القزلباش بغداد ، فعاثوا فيها قتلا وتخريبا، وألقي القبض على الفقهاء والحكماء والمدرسين من السنة ، وقتل من لم يوافق على اعتناق التشيع الإثني عشري ، وقاموا بهدم مرقد الإمام أبي حنيفة بما في ذلك المسجد والمدرسة والقبة ، ونبشوا القبر . منذ ذلك الحين بدأ وعلى يد الصفويين الاهتمام بمراقد أئمة الشيعة تشييدا ومزارات ومثابات وتمدينا - جعلها مدنا - ، وأصبح هذا الأمر النهج الثابت للأنظمة المتعاقبة على حكم إيران . لم يكن التطور الوحيد الذي شهدته هذه المراقد ، يكمن في العمل على إضفاء الصفة العقائدية - طبق العقيدة الشيعية - على هذه المراقد لتمييزها عن مراقد الأولياء والعلماء وإعطائها وضعا استثنائيا خاصا بوصفها مراقد أئمة معصومين لهم منزلة أعلى من البشر ، وفي تحويل زيارتها الى ممارسة طقوسية على النهج الشيعي ، وإنما جرى العمل على توظيفها لعدة أهداف من أهمها : - 


1- استغلالها لتوسيع الوجود الشيعي في العراق . فالشيعة العراقيون كانوا أقلية محدودة جدا ، بحيث لا نجازف إن قلنا إن عدد المسيحيين واليهود في العراق كان أكثر من عدد الشيعة  ، فقد كانت العشائر العراقية سنية ، ولم يكن للشيعة وجود يذكر في المحافظات الجنوبية والوسطى ، وكانت النسبة الأكثر من الأقلية الشيعية في العراق ، موجودة في النجف والكوفة وربما أطراف كربلاء وفي الحلة ، لكن اهتمام الحكم الشيعي في إيران بالمراقد بالنحو الذي تقدم ساهم  في نشر التشيع بين العراقيين ، وكان هناك توظيف لتحقيق ذلك سواء بتأثير الهالة العقائدية والحالة الطقوسية التي أحيطت بها المراقد وما صاحبها من استدرار العواطف بالدق على وتر مظلومية آل البيت ، أو ما نتج عن تطور وضع المراقد من زخم اجتماعي واقتصادي وسياسي .  


2 - إستغلالها في إحداث التغيير الديموغرافي في العراق . فقد تقدم أن الشيعة في العراق كانوا قبل الحكم الصفوي في إيران أقلية محدودة تتفوق عليها عدديا الأقلية المسيحية واليهودية ، إلا أن الأنظمة الشيعية في إيران والتي استمرت في الاستراتيجية الفارسية التاريخية الطامعة في العراق ، عملت على استغلال وجود المراقد الشيعية في العراق للزج بأعداد كبيرة من الإيرانيين للسكنى في العراق والتغلغل في النسيج الإجتماعي العراقي ، لتزريق المجتمع العراقي بالثقافة الفارسية وبالعنصر الإيراني وبالعوائل الشيعية . ولهذا شهدت تدريجيا العديد من المدن الشيعية لا سيما المدن التي تحتضن المراقد الشيعية ، تزايدا كميا ونوعيا في الوجود الشيعي في المجتمع العراقي والذي كان يتدفق من إيران على وجه الخصوص ، وعلى إثره صار هناك تواجد شيعي من دول أخرى مثل الهند وأفغانستان وباكستان ودول عربية . ولقد كان لهذا التغيير الديموغرافي أثر لا يستهان به على الوضع العراقي في كل المراحل . 


3 - استغلالها لإيجاد قواعد إيرانية وشيعية في العراق ذات أبعاد ثقافية وسياسية واستخبارية . فبذريعة المراقد تم في أماكن تواجد المراقد تأسيس حوزات دينية لتدريس وترويج ونشر التشيع ، وتوسيع حوزات كانت موجودة بشكل محدود ، وحصل تدفق خطير للمعممين الأجانب وبالدرجة الأولى للمعممين الإيرانيين وفق مخطط يرمي للهيمنة الإيرانية على الحوزات الدينية الشيعية وعلى المرجعية الدينية الشيعية ، وشهد العراق سيطرة مرجعيات إيرانية على الواقع الشيعي وتحريك الشارع الشيعي وفق اجندات معينة ، ومن  مظاهر ذلك في واقعنا الراهن سيطرة السيستاني على مرجعية النجف وعلى الشارع الشيعي ، الى المستوى الذي جعله يهيمن على الحياة السياسية والقرار السياسي في العراق ويمكّن للإحتلال الأمريكي - الإيراني للعراق . وبذريعة المراقد كان يندس جواسيس إيران إما بشكل زوار للمراقد ، أو مقيمين في مدن المراقد ، ويلعبون أدورا تجسسية ومخابراتية لصالح إيران . وقد استفادت لمصالحها من هذا التوظيف دول أخرى أجنبية كبريطانيا وروسيا وأخيرا أمريكا .


4 - إستغلالها طائفيا ، إذ لم تعد المراقد مجرد مزارات للشيعة يؤدون فيها طقوسهم في إطار حرية المعتقد ، وإنما تم تحويل الزيارات الى مناسبات يتجلى فيها الشحن الطائفي وتأجيج المشاعر الطائفية وبلورة  الحالة الطائفية في الشخصية الشيعية الفردية والجمعية ، وإنعاش الإنتماء الطائفي على حساب الإنتماء الوطني ، وقد كانت هذه المناسبات في ظل الحكم الوطني مناسبات للتحدي وإثبات الوجود ، وفي ظل الحكم الشيعي جسدت الإنقلاب على قواعد التعايش المجتمعي وأصبحت زيتا يغذي نار الحقد الطائفي في نفوس الشيعة .  لقد حولوا آل البيت الى رموز لطائفة واختزلوهم بدائرة ضيقة وسلخوهم عن رمزيتهم الدينية الإسلامية العامة ، وحرفوا سيرتهم الحقيقية من كونهم شخصيات مرموقة عند المسلمين لا علاقة لها بأباطيل التشيع المذهبي وخرافاته ، الى واجهات للطعن في الإسلام ونبيّه صلى الله عليه وسلم  وصحابته رضي الله عنهم ، والتابعين لهم بإحسان من علماء الأمة وعظمائها . أضف الى ذلك الممارسات المتخلفة التي تترفع عنها كرامة الإنسان وعقله ، والممارسات البدعية والشركيةالتي صارت من مظاهر زيارة هذه المراقد بما لها من انعكاس سلبي على المستوى  الثقافي والمجتمعي للناس . 


5 - إستغلالها سياسيا ، ومن يقرأ تاريخ الصراع بين الأنظمة الشيعية في إيران منذ الدولة الصفوية الى يومنا هذا من جهة ، وبين الدولة العثمانية والدولة العراقية ودول عربية من جهة أخرى ، يقف بوضوح على لعب الإيرانيين بورقة المراقد وحمايتها لتحقيق أهداف سياسية وللتدخل في شؤون العراق ودول عربية . ونحن اليوم شاهدو العصر على هذه الحالة ، فقد استغل النظام الإيراني المرقد المزعوم للسيدة زينب رضي الله عنها للتدخل في سوريا وتدميرها والفتك بالشعب السوري وحماية النظام الطاغوتي الطائفي وإيجاد النفوذ الإيراني ، وهو يستخدم هذه الورقة دائما في العراق ، وحاول ويحاول استخدامها في مصر . لقد أصبحت هذه الورقة ذريعة لضرب مجتمعاتنا العربية - السنية . إنه أبشع استغلال للموتى في الهيمنة على مقدرات العباد والبلاد .


لقد تعامل الحكم في العراق - سواء في فترة الدولة العثمانية أو في فترة الدولة الوطنية منذ العهد الملكي - مع المراقد الشيعية باحترام وساهم في إعمارها ، وفسح المجال للشيعة في ممارسة طقوسهم فيها من منطلق ضمان الحرية الدينية للمواطنين ، ورحب بزوار هذه المراقد الوافدين من خارج العراق مقدما لهم التسهيلات اللازمة . ولئن كان هذا التعامل معبرا عن موضوعية الدولة وإحساسها بالمسؤولية ، إلا أنه لم يروِ غليل الشيعة الذين تلتهب مشاعرهم الطائفية ، ولم يحد من غلواء نزعتهم للظهور والتسلط ، فاستغلت القوى المحركة لهم سماحة الدولة ورحابتها أسوأ استغلال . وأدرك الحكم البعثي ذلك مضافا لإدراكه لبعض الآثار السلبية الصفوية للمراقد والمناسبات الشيعية ، فتصرف بطريقة البطة العرجاء التي أدت الى زيادة الحقد لدى الشيعة وتعميق الهوة بينهم وبين الحكم ، واعتبروا منع بعض الطقوس والممارسات كبتا للحرية ومحاربة للعقيدة ، في الوقت الذي لم يكن المنع يستهدف ذلك، إلا أن القوى الدينية الشيعية وظفت ذلك للوصول الى السلطة وتعبئة الشارع الشيعي لضمان انقياده لها . وبعد سقوط الدولة الوطنية بفعل احتلال أمريكي غاشم ، تماهت معه القوى الشيعية الطائفية ، واستولت على السلطة بتمكين المحتل الذي فتح باب العراق على مصراعيه لنظام الملالي في إيران ، حصل وبرعاية وحماية السلطة وأجهزتها أسوأ توظيف للمراقد الشيعية وللمناسبات والزيارات في مناخ طائفي ساخن مزق النسيج المجتمعي العراقي وجارَ على السنة في العراق جورا ما بعده جور ، وبذريعة المراقد وجدت عصابات وميليشيات مجرمة تقتل وتنهب وتعذب وتنتهك ، و نحدر الشيعي العراقي في ممارساته الطقوسية والطائفية الى مستنقعات شوهت وجه العراق وسمعته الحضارية . 


بغض النظر عن صحة ومدى مشروعية بناء ووجود المراقد ، وبغض النظر عما نعتقده من بطلان التشيع المذهبي ، نقول إنه يجب وضع حد للدور والتأثير السلبي الصفوي للمراقد الشيعية لتعود كما كانت قبل الدولة الصفوية بعيدة عن الإستغلال الطائفي والتوظيف السلبي .


تعليقات

أحدث أقدم