خاطرة جامعية

مشاهدات


د. ضرغام الدباغ


كنت ذات يوم جالساً في مكاني في الزنزانة، وإذا بشاب في مقتبل العمر، يدخل الزنزانة ويسلم عليّ، فرددت عليه السلام، وقال (وهو نزيل في السجن) " دكتور أنا أود أن أتعرف عليك، أسمي (س) وأنا سمعت بك حتى قبل دخولي السجن، فقلت له تفضل أجلس وصببت له القهوة من الترموس، فقال أنه خريج كلية العلوم السياسية / جامعة بغداد أو المستنصرية ، ويود أن يتواصل معي كي لا ينقطع عن العلم . فوافقت على طلبه تشجيعاً له لمواصلة الدراسة، فقال أنه يريد أن يحاول وضع الفكر الديني في إطار العلوم السياسية المعاصرة .  فقلت له أن هذا الهدف لا يخلو من التعقيد، فالدين والفلسفة يتناقضان في العديد من المسائل، والكنيسة أطلقت على مساعي التقريب بين الدين والفلسفة بالسكولاستيةScholasticism  وفيما أطلق المفكرون الإسلاميون على هذا التوجهات " بالدهرية ". قبل الأخ (س) ملاحظتي على مضض، وكان شاباً مهذباً لطيفاً، وله رغبة مخلصة في التعلم، لكن مع وجود "كوابح" داخلية لما تعتمل في نفسه من أفكار، وصعوبات خارجية تتمثل بصعوبة توفير المصادر وضيق المكان .


تمضي السنين، وفي عام 2005، وبينما كنت أجاهد بالعودة للتعليم في (الجامعة المستنصرية) ولدي كافة الوثائق التي تشير أني سجين سياسي كنت نزيل سجن أبو غريب لمدة 16 سنة، ولدي أمر من وزير التعليم الدكتور طاهر البكاء بإعادة تعييني في الجامعة، فوجئت بإصرار غريب برفض التعيين من رئيس الجامعة (د, تقي على موسى الموسوي) الذي أخترع أنواع العراقيل للحيلولة دون تسجيل مباشرتي، في كلية العلوم السياسية / الجامعة المستنصرية، ولما أعيته السبل، قال لي مساعده، بصراحة تامة " رئيس الجامعة لا يريد إعادتك وأفهمها كما تريد ." فيما أنا كنت أنا سجيناً أمضي السنوات في السجن، كان محمد تقي الموسوي هذا عضواً في قيادة فرقة بحزب البعث، ولكنه في هذه اللحظة أنقلب إلى نمر طائفي متخلف رغم درجة الأستاذية التي يحملها. وهمس لي أحدهم وقد أشفق على تعذيبي ومن مسلسل " روح تعال بكرة "، أن الموسوي لن يعيدك لو انطبقت السماء على الأرض .. وأنا أطلق على شخصيات تملك القدرة الخارقة على الأعمال الأكروباتيكية من هذا النوع في أعمالي الأدبية براقصي الديسكو (Disco Dancer)، للمهارة الفائقة والمرونة الخيالية لأبدانهم تفوق ما يمتلكه البشر العاديون ... وهي قدرة رهيبة على أية حال، والرقص على الحبال وعلى وقع الطبلة ليس عيباً ولا عاراً... فهذا الرجل درس في جامعات أجنبية، درسه فيها علماء ليسوا بعراقيين ولا عرب ولا مسلمين حتى، العلم والتدريس مهمة لا تحتمل الإقحام في موضوعات سياسية، نحن ندرس الطلبة دون النظر إلى هوياتهم . العلم لا علاقة له بما تعتقد أنت شخصياً. خرجت من الجامعة وأنا آسف على تجشمي متاعب السفر وما تكبدته من مصروفات، على كل حال أنا معتاد على مواجهة مثل هذه المواقف، وجلست للاستراحة في مقهي يقع بالقرب من المدخل الجانبي للجامعة، كنت جالساً وبيدي كوب من الشاي، وإذا بأحدهم يمسك كتفي ويسلم بأخوية، وإذا به الأخ (س)، وبعد المعانقة والسلام والكلام، سألني أن كنت قد عدت للتعليم، فقلت له " وكيف ذلك بوجود أناس مشوهين بين العلم والتخلف والطائفية، هؤلاء بشر ممزقون ".


فضحك وقال لي " هون عليك، إذا كانوا قد رفضوني أنا، فماذا يفعلون بك ..؟".


دهشت فسألته " وهل رفضوك وكيف ..؟ ".


قال " أردت أن أقبل في الدراسات العليا ولكنهم رفضوا .. وقبلوا أشخاصاً من أقارب فلان وعلان ورفضوني وأنا من كنت سجين القضية ..! ".


وهكذا عدت أدراجي إلى برلين وأنا الذي كنت قد صممت على أن أنجز عاماً دراسياً ممتازاً وأن أدرس لطلابي أفضل ما أنتجه العلم للأستاذ الإيطالي الفذ انطونيو نيغري (Antonio Negri) ومؤلفه الممتاز الذي يدرس في أرقى جامعات العالم (EMPIRE...... Die Neu Weltordennung). " الامبراطورية... النظام العالمي الجديد "، وهو أرقى ما كتب عن النظام الإمبريالي الجديد " العولمة " الصادر عام 2000، وقد شارك في وضع الكتاب علم أمريكي هو ميشائيل هاردت. فذهبت أحلامي بمنجزات علمية أدراج الرياح . أن يتخرج على يدي طلاب عراقيون درسوا ما يدرس الآن في أرقى جامعات العالم . فرصة أغتالها البروفسور الطائفي محمد تقي الموسوي . فقلت للأخ (ٍس) ألا تذكر يوم تحدثنا في السجن أن الطائفية إذا دخلت إلى الدماغ فسوف تتلف خلاياه حتى آخر جزيئة منه، فضحك وقال " الحق أني صدقتك على مضض، ولكن ما يحدث هو هذا للأسف.

تعليقات

أحدث أقدم